أقرأ وأنقد وأزن وأرجح وأبحث عن الحق ما استطعت وأتجرَّدُ من الهوى، فهذا هو النهج!.
وعلماؤنا الأقدمون مشوا في هذا الطريق، والأمة الإسلامية في تاريخها الأول كانت أمة حقائق لا أوهام، ولم تكن للخرافات أسواق رائجة كما يحدث الآن...
كان للفقه علماؤه، وكان للحديث علماؤه، وربما ذهل الآخرون في شيء فيستدرك عليهم الأولون، وقد يكون العكس، وإن كان تاريخنا العلمي قد جعل الفقهاء أصحاب القيادة وجعل الجماهير تتبع مذاهبهم عن اجتهاد طورا وعن تقليد أغلب الأحيان...
والذي نلحظه آسفين أن كثيرًا من جامعي السنن قد تساهلوا في قبول أسانيد ضعيفة، وأن هذا التساهل زحم ميدان السنة بآثار ما كان ينبغي أن تذكر..
وإذا كان من شرط الحديث الصحيح أن يخلو من الشذوذ والعلة القادحة فإن كثيرين نقلوا ما خالفوا به الثقات، ونقلوا ما به علل تَرُدُّه! ومع ذلك سطَّروا وحبّروا، وتركوا للأخلاف ما عكر المجرى، وبلبل الفكر.
إن رجلا جليلا كالبخاري ترك أحاديث كثيرة مرت به فلم يرها أهلا للتدوين، ومن هنا لم يجمع في صحيحه إلا ألفين وبضع مئات من السنن..
على حين جمع غيره ألافا وألافا من الآثار تحتاج في غربلتها -حسب مقاييس علمائنا- إلى جهد جهيد..
ولأذكر مثالا واحدا للبلاء الذي أصاب الجماعة الإسلامية من تسجيل الأحاديث الضعيفة وتركها تشغب على معالم الدين، ومعاقده!
من تلاوتنا للقرآن الكريم نعي أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعا، ومكننا منه وملكنا إياه..
ألسنا جزءًا من البشر الذين قال الله لهم.
((وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))
وصاحب هذه الإمكانات المتاحة مكَّلف أن يتصرف فيها بما يرضي الله، كما تصرف سليمان في نقل عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين ثم قال: ((هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)).
هل يقبل من أحد أن يستقيل من هذه الوظيفة، ويحيا صفر اليدين، ويفرَّ من أعباء التكليف، ويقول: أنا زاهد في الدنيا...!!.
وما مستقبل الإيمان ودولته على ظهر الأرض إذا كان الأتباع جماهير غفيرة من أولئك المستقيلين الهاربين؟؟.
إن أعدادًا كبيرة من المسلمين زعموا أن صاحب الرسالة آثر الفقر على الغنى، ودعا إلى قلة ذات اليد، وبهذه الفلسفة الجبانة نشروا الفقر في الأمة الإسلامية من عدة قرون، وجعلوها لا تحسن إدارة مفتاح في خزائن الأرض! الأمر لا يستحق هذا العناء!!.
فلننظر: هل جاء في سنة صاحب الرسال تحقير للغنى وتأخير لأصحابه وذم لأنشطتهم؟.
في السنة الصحيحة لا يوجد شيء من ذلك! بل الذي رواه البخاريُّ "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق [...]".
والأحاديث كثيرة في توكيد هذه القاعدة الاجتماعية الرشيدة، فالعالم الأول في عصرنا يقوم على المال والعلم، والعالم الثالث يقوم على الفقر، والجهل البسيط أو المركب!!.
ومع ذلك فقد روى نقلة السنن عشرات الأحاديث تحت عنوان "الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين..".
وقد ساءني في إحدى المحاضرات أن المتحدث -هو من العلماء المرموقين عمر عبد الرحمن بن عوف- ناقلا حديثا نبويا يفيد أن عبد الرحمن -لكثرة ماله لا يدخل الجنة إلا حبوا- قلت له: هذه الأحاديث وأشباهها معلولة لا يجوز أن تروى!.
وأنا وفق القواعد القرآنية والنصوص القاطعة أرفض هذا الحكم.. أليس يقول الله في عبد الرحمن وأشباهه ((لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا...))
وعبد الرحمن أسلم يوم كان المسلمون يُعَدُّون على أصابع اليد، ومنذ أسلم سخر نفسه وماله لله، فهل جريمته أنه صاحب مال سلطه الله على هلكته في الحق؟ أذلك الذي يؤخر مكانته ويضع درجته؟
إن علماءنا قالوا بوضوح في علم الحديث: إذا خالف الثقة الأوثق فحديثه شاذ، فإذا كان المخالف ليس ثقة فحديثه منكر أو متروك! لماذا لم نطبق القواعد العلمية الموضوعة المحترمة على هذا السبيل من المرويات التي ضارت مجتمعنا وأوهنت قواه...؟.
لقد رأيت الأمة الإسلامية محكومة بجملة من الأحاديث المتروكة والمنكرة والشاذة! ورأيت هذه الأحاديث تطرد أمامها المتواتر والمشهور والصحيح! كما تطرد العملة المزيفة العملة الصحيحة!