الأحد، 9 سبتمبر 2018

هل الفقر منقبة؟؟


في ظل بعض ما يطرحه الدعاة من دعوة إلى الزهد والتقشف ذاكرين بعض قصص الموروث عن الزهد صار البعض يظن أن الفقر منقبة والمال مذموم.


وأنا من اللواتي أصابني هذا الخلط خصوصا مع ملاحظتي انتشار الغلو في المعاني المادية والاستهلاكية سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول، فنحن نرى أمما مترقية في المال ولها حضارة ونهضة وصناعة ولكنها بذات الوقت فيها فقراء وجوعى، ووجود الجوعى جعلني إحدى اللواتي حقدن على المادة والمال والسرف والنظرة المادية الباذخة وغاليت في هذا ولم أستطع أن أميز الضبط الذي تحتاجه قضية المادية حتى تأملت آيات القران فبدأت نظرتي تصبح متزنة بفضل الله أكثر، من الآيات التي أثرت بي وأتمنى ان تتأملها أيها القارئ الكريم آية: 

(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ) [سورة النساء 5]

ومعنى "قياما" كما ذكره ابن عاشور هو: [والمعنى أن الأموال تقويم عظيم لأحوال الناس.]

وفعلا في الحقيقة لا نستطيع عمل التجارب العلمية إلا بالمال ولا علاج أحبتنا المرضى إلا بالمال، ولا توفير التعليم والغذاء للفقراء إلا بالمال وعندما يموت ابني جوعا أو مرضا فلن أستطيع الادعاء أن المال ليس من أسباب السعادة بل هو فعلا فيه تقويم عظيم لأحوال الناس (أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)**

إذن تقرر لدينا من الآية أن المال فعلا شيء إيجابي وقد جعله الله لنا قياما، ولا ينبغي عليّ بغضه أو الإدعاء أن الفقر منقبة، إنما السلبي هو انتشار مفاهيم مادية خاطئه مثل طغيان المعنى المادي على المعنى الإنساني والقيمي، فمن المفترض أنه لو مات ولد جوعا ولا أملك ما أطعمه فلن أبكي لأنه ليس لدي مال بل علة بكائي الحقيقية "إنسانية" وهي حزني على الولد، ولكن الحاصل أن بعض البشر يموتون وتسلب ثروات بلادهم لأجل أن البعض الآخر المسيطر شره بشراسة نحو المال، ولا يبالي بفقر البشر أو موتهم ولا يبالي بالظلم طالما جيبه مليء، بالآيات: 

(وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [سورة الفجر 18 - 20]

طغيان المادية لديهم (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَما) وحبهم للمال غلب حب الخير فلم يحضّوا على طَعَامِ الْمِسْكِين وأكلوا ميراث الناس ظلما وعدوانا بسبب أنهم يحبون الْمَالَ حُبًّا جَمًّا مفرطا ! (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)
 
وهذا من أشد ما تعانيه البشريه اليوم وكل دولة تسعى لمصالحها المادية مقتاتة على موارد الفقراء وظلمهم.

وتلخيص هذا الخطأ هو أنهم جعلوا المادة غاية لا وسيلة لإسعادهم وإسعاد البشرية ودون مراعاة لأي مرجع أخلاقي أو إنساني أو ديني والصواب نقل المال من عرشه هذا وإرجاعه وسيلة لا غاية.

ومن الأخطاء أيضا في التعامل مع المال خطأ التبذير، ومعنى الإسراف والتبذير بحسب ابن عاشور: (تفريق المال في غير وجهه، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير، ولو كان المقدار قليلاً، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير.)

المشكلة أن العادات المبذرة الاستهلاكية متفشية وهي بنظر الناس احتياجات، ومثلا تنتشر عادات مادية في الأعراس هي غير ضرورية لكن حتى الفقراء يطبقونها مستشعرين أنه لا غنى عنها! نعم حتى الفقراء يبذرون بسبب الثقافة المادية الاستهلاكية! وهذه العادات تصبح طقوس مقدسة وتزداد، فلو ولدت إحداهن يخترعون طقوس ضيافة بأطباق خاصة تستخدم مرة واحدة فقط للولادة وكذلك الأعراس وحفلات النجاح، كل له طقوسه الاستهلاكية الساذجة والتي يتهافت الناس عليها!

ومن الأخطاء أيضا في التعامل مع المال هي وجود أنظمة تخدم الفكرة النكدة التعيسة (الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا)

وقد حرم الله تلك الفكرة البغيضة ونهى أن يكون المال متداولا بين الأغنياء فقط دون الفقراء قائلا: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) سورة الحشر

وأفهم من الآية أن كل نظام قائم تكون فيه الأموال متداولة بين فئة قليلة من البشر فهو نظام محرم شرعا ومعلوم أنه حاليا فئة قليلة جداً من البشر يمتلكون أغلب موارد الأرض.

وفكرة (الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا) أساس بنيانها الربا، فببساطة؛ الشخص الذي يدين المال للناس هو أكثر مالا من الشخص الذي يستدين من الناس ومع هذا فالمال يعود للذي أدان أزيد مما أعطاه ، وتلك الزيادة تكون بالطبع على حساب المحتاج الذي تداين وبالنهاية ستظل الدائرة تدور حتى يصبح الذي يدين الناس هو الأكثر مالا والغني يزداد غنى والفقير فقرا والبشرية تعاسة.

تلخيص مقالي:

أننا لا ندعي أننا لا نتمنى المال ولا ندعي حب الفقر ولا هو فضيلة ولا حث عليه الدين ولا الفقر منقبة ولا ممدحة، بل جعل الله المال قياما، ولكن علينا أن نتعامل مع المال بطريقة صحيحة وقد ذكرت أخطاء في التعامل معه على سبيل المثال لا الحصر وهي:

(غلبة المادية على الإنسانية + التبذير + الربا والتوزيع الظالم للمال) 

فإن سادت هذه المعاني وغيرها فهي مادية قذرة وفساد في الأرض وحينها: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)

والله تعالى أعلى وأعلم

__

** هذه الآية الخامسة من سورة النساء فيها عمق اقتصادي رائع ولكننا لم نتطرق للتفاصيل حتى لا نخرج عن الموضوع ومن أراد الاستزادة فليراجها من كتاب ابن عاشور في تفسيره لها


طالع أيضًا:

هل الفقر منقبة؟

ما كنا ولن نكون، أتباع أوهام!

ما مدى صحة أحاديث الترغيب في الفقر؟

هناك تعليقان (2):

  1. كم من التجارب والاختبارات نحتاج لنصل إلى هذا الرقي في التفكير ولتستطيع تحديد الهدف بهذه الدقة
    جزى الله كاتبة المقلل كل خير

    ردحذف

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: