طبيعة الإسلام تفرض على الأمة التي تعتنقه أن تكون أمة متعلّمة ترتفع فيها نسبة المثقّفين، وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين.
ذلك لأن حقائق هذا الدين –من أصول أو فروع- ليست طقوسًا تنقل بالوراثة، أو تعاويذ تشيع بالإيحاء، وتنتشر بالإبهام. كلا. إنها حقائق تستخرج من كتاب حكيم، ومن سُنة واعية! وسبيل استخراجها لا يتوقف على القراءة المجردة، بل لابد من أمة تتوافر فيها الأفهام الذكية والأساليب العالية، والآداب الكريمة. [...]
وهناك بعد ذلك التفكير في الكون اطّرد الأمر به في سُور القرآن واعتبر الأساس الأول لإقامة إيمان ثابت وطيد. إن هذا التفكير هو الذي فتق الأذهان عن راوائع الحضارة الحديثة، ويسر للدنيا هذه الكشوف الجليلة لأسرار الوجود، وسخر للناس ما لم يكونوا يحلمون به. ثم هناك أيضا التوصية باتباع الحق وحده والبحث عنه مهما خفى، واستناكر الظنون العائمة، والنهي عن الجري وراءها ووضع رقابة محكمة على السمع والبصر والفؤاد. إن هذا كفيل بإيجاد مجتمع بعيد عن الخرافات ميّزه عن الأوهام والمساخرة لا مجتمع يفيض بالشعوذة تتركز في الأراجيف والترهات، وتحكمه تقاليد غامضة ما أنزل الله بها من سلطان.
إن العلم للإسلام كالحياة للإنسان، ولن يجد هذا الدين مستقرا له إلا عند أصحاب المعارف الناضجة والألباب الحصيفة.
[...]
والحق أنه على قدر ذكاء الشخص واستنارته واستقامة فطرته رسوخ قدمه في الإسلام، وهيهات أن يسبق في هذا الدين بليد الرأي سقيم الوجدان.
إن أول ما نزل من آيات القرآن قول الله لنبيه:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)).
وهذه أول صيحة تسمو بقدر القلم وتنوه بقيم العلم وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل رجل عظيم أن يقرأ وأن يتعلم. وسما الله عز وجل بدرجات العلماء حتى قرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته:
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)).
ولا غرو. فأنى للعقول الكليلة والمعارف الضيقة أن تدرك جلال الكبير المتعال؟ وأنى لمن يعيش على هامش الحياة –بجهله وظلمته- أن يعرف الحق عن رب الحياة أو يلمح طرفًا من صفاته العظمة وآياته الكبرى؟
***
[إن] عبادة الجهال –كصدقاتهم- قليلة الجدوى، وهم يضرون أنفسهم من حيث يريدون نفعها، ويؤذون أصدقاءهم من حيث يبغون راحتهم، وجهلة العباد يستمسكون بالدين استمساكا شديدا، ويتعصبون له تعصبا ظاهرا. ولكنهم في ساعة رعونة وغباء يقفون منه الموقف الذي يلحق به الأذى والمعرّة، ويجر عليه المتاعب الجمة، أما أولو العلم فإن بصيرتهم الذكية تحكم مسلكهم وتلهمهم الرشد، فلو قل عملهم كثر ما يصحبه من سداد وبصر.
[...]
***
والعلم الذي يُقبل المسلم عليه، وتستفتح أبوابه بقوة، ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب، ليس علما معينا محدود البداية والنهاية، فكل ما يوسع منادح النظر، ويزيح السدود أمام العقل النهم إلى مزيد من العرفان، وكل ما يوثق صلة الإنسان بالوجود، ويفتح لها آمادا أبعد من الكشف والإدراك. وكل ما يتيح له السيادة في العالم، والتحكم في قواه، والإفادة من ذخائره المكنونة. ذلك كله علم ينبغى التطلع له والتضلع فيه، ويجب على المسلم أن يأخذ بسهم منه، وهذا الشمول دلت عليه الآيات والسنن.
[...]
فالسياق في هذه السنن يوجه إلى أي علم يطلب: تعلم الخير، الحكمة، ما يقي من الضرر، ما يقرب من النفع. وتخصيص العلم بلون معين من الثقافة كتخصيص المال بنوع معين من الأملاك لا وجه له. ولا شك أن في طليعة ما تجب معرفته حق الله عل الناس، وحق الناس على بعضهم على بعض. فإن هداية السلوك إلى الصالح العالم كبيرة الأثر في تنظيم الجماعات وتوجيه السياسات لكن من الخطل أن نظن العلم المحمود هو دراسة الفقه والتفسير وما شابه ذلك من الفنون فحسب. وأما ما وراءها فهو نافلة يؤديها من شاء تطوعا أو يتركها وليس عليه من حرج . . !!
هذا خطأ كبير، فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث والمتواصل في ملكون السماء والأرض لا تقل خطرا عن علوم الدين المحضة، بل قد يرتبط بها من النتائج ما يجعل معرفتها أولى بالتقديم من الاستبحار في علوم الشريعة.
وحسبنا أن القرآن الكريم عندما نوه بفضل العلم وجلال العلماء إنما عنى العلماء الذين يعرفون عظمة الخال من عظمة الخلق، وإنما عنى العلم الذي ينشأ من النظر في النبات والحيوان وشئون الطبيعة الأخرى.
[...]
إن علوم الحياة مساوية لعلوم الآخرى في خدمة الدين وتجلية حقائقه، غاية ما هنالك أن علوم الطبيعة تحتاج دراسات أطول. أما العلم بالدين فميسور لمن أخلص له أياما معدودات. وإذا كان التوسع في فروع الشريعة يحتاج مددا فسيحة. فهذا التوسع وظيفة اجتماعية كسائر الوظائف التي تستكثر منها الدولة أو تستقل وفق المصلحة التي تنجح رسالتها العلاي وليست دراسة الحقوق والقضاء أشرف في ذاتها من دراسة الطب مثلا. ولو بلغ صاحبها مبلغ أبي حنيفة، وإنما يرجح الرجل صاحبه في علمه بمقدار ما يسخر هذا العلم لنفع الناس ابتغاء وجه الله، وانتظار ما لديه من مثوبة . .
محمد الغزالي: خلق المسلم
Merciiiiiii beaucoup 😊☺😙😘 3awnteni bzaf
ردحذف