الأربعاء، 3 أبريل 2024

أين آدم عليه السلام في نظرية التطور؟


أين آدم عليه السلام في هذه القصة [قصة البشرية وتطورها]؟ أين نوح عليه السلام في هذه القصة؟ أين بقية الأنبياء؟ 

[...]

الإجابة ببساطة هي لا نعلم. فنحن المسلمون نعرف أن كل ما في القرآن صحيح، حتى لو لم نفهمه كله اليوم فسيأتي يوم نفهم معنى كل ما في القرآن. 

قد يكون سيدنا آدم هو أول إنسان على وجه الكرة الأرضية، وقد يكون أول شخص لديه قدرات حضارية من قراءة و كتابة (وعلم آدم الأسماء كلها).

وقد يكون آدم شخص من أشخاص كثيرين ولكن كتب الله لنسل هذا الشخص أن ينجو وينتشر بينما لسبب ما انتهى نسل الآخرين. 

قد تكون قصة سيدنا آدم في القرآن لها تفسيرات كثيرة منها ما نعلمه ونفهمه اليوم ومنها ما لم نصل إلى فهمه ومعرفته بعد وسنعرفه يوما ما مع المزيد من الاكتشاف والتطور والعلم. 

لكن الأكيد هو أن القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ ولا كتاب جغرافيا ولا كتاب علوم. وكل قصص القرآن الكريم الهدف منها هو الموعظة والعبرة لنكون أشخاصا أفضل روحيا. 

من ناحية أخرى كل قصص القرآن الكريم صحيحة لأننا نؤمن أن الله قد أوحى بها لرسوله محمد عليه الصلاة و السلام. ومن لا يؤمن بذلك هو ينكر جزءا من الوحي ويفتقد صفة الإسلام والإيمان بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام.

وبالتالي فنحن نرى أن الإسلام وقصص القرآن لا تتعارض مع ما نعرفه اليوم من اكتشافات ونظريات. و أن هذه النظريات والاكتشافات هي في حدود ما نعرفه اليوم من علوم مادية وقد تتغير مع مرور الزمن بينما القرآن و نص القرآن ثابت لا يتغير. رغم أن فهمنا لهذا النص الثابت قد يتطور ويتحسن مع تزايد معارف البشر.


خالد عمارة، التاريخ كما أحب أن أحكيه لأولادي، بتصرف طفيف


راجع أيضا:

آدم بين نظرية التطور وقصة الخلق

هل من نقطة التقاء ممكنة بين الدين ونظرية التطور؟

هل نظرية التطور متوافقة مع القرآن


0 اقرأ المزيد »

الاثنين، 18 ديسمبر 2023

احتكار الجنة... هل كل غير المسلمين في النار؟

0


(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة 111)
.


ومثلها هذه الآية: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة 113).

 

هذه الآيات توضح تهافت أحد أبرز الأفكار التي نسمعها تتكرر بشدة من أصحاب الديانات المختلفة والتي هي فكرة احتكار الجنة، حين يقولون: "لن يدخل الجنة إلا نحن"! وكأن لديهم ضمانا بدخولها، ويوضح لنا القرآن كيف أن كل طائفة تستخدم نفس الحجة وهي تدعي بأن الجنة خالصة لها ويبين لنا بأن الجنة ليست حكرًا على أحد وأنها لمن أسلم وجهه لله وأخلص له قلبه.


الأمر ليس بالأماني، لا أماني المسلمين ولا أماني غيرهم: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء 123).


إن فكرة احتكار الجنة، فكرة متهافتة رغم شيوعها، وتجد حتى في أبناء الملة الواحدة تقسيمات وفئات وطوائف ومذاهب، وتجد من يضع كل من خالفه في كفة النار، وكأن لديه صكًا ووعدًا من الله له وحده بالجنة والغفران (طالع أيضًا: ما مدى صحة حديث "ﺗﻔﺘﺮﻕ ﺃﻣﺘﻲ"). لكن في الحقيقة الجنة والنار بيد الله سبحانه وتعالى لا بيد البشر، والله هو العدل الذي لا يُظلم عنده أحد: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيَ) (الشعراء 113)


ونجد في القرآن ذمًا لفئة من الناس كلما رأوا الذين آمنوا سخروا منهم ونعتوهم بالضلال، فيقول لهم القرآن بأنكم لم ترسلوا لمراقبتهم: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (المطففين 29-33).


إن المؤمن عليه نفسه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة 105). انشغل بنفسك ودعك من خلق الله.


وتأملوا معي هذه الآية: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (المؤمنون 117). القرآن لا يخطئهم لأنهم خاطئون، بل لأنهم لا يملكون البرهان والدليل الذي يدعم معتقدهم، وهذا هو ما يجعلهم مخطئين، إنه المنهج!  

 

وآية أخرى تصب في نفس المنحى: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء 15). الله لا يحاسب البشر حتى يصلهم الرسول ويوصل لك رسالة الله! لا تحاسب حتى ترى البرهان والحجة تقام عليك!  


فكرة احتكار الجنة أيضًا تجعل أي إنسان محايد يسأل السؤال البديهي الشائع وهو ما ذنب الآخرين من أصحاب الديانات الأخرى؟ هل ذنبهم فقط أنهم ولدوا في الدين الخطأ والمكان الخطأ؟ 


الكثير من الناس يظن أننا نحن كمسلمين ناجون من العذاب وغيرنا كلهم سيعذبون بسبب عدم إيمانهم، لكن هنا يجب أن نفرق بين حالتين: 

 

الحالة الأولى: هي كفر عناد وجحود وشهوات: شخص يعرف الحقيقة ويدركها، وصلته رسالة الإسلام بشكل سليم وواضح، وعرف أنه هو دين الحق لكن لسبب أو لآخر لم يسلم، عنادًا، أم غرورا، أم مماطلة... المهم أن هذا الصنف هو ما يصح فيه القول بأنه كافر يستحق النار لأنه لا عذر له. وقد دلت الآيات على ذلك وانظروا لهذه الآيات كيف تتحدث عنهم وتقول (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ) أي أنهم كفروا بعد أن عرفوا الهدى فحقت عليهم النار: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء 115). أي: "يخالفه ويعاديه من بعد ما اتضح له الحق، وقام لديه الدليل على صحة دين الإِسلام". (ابن عاشور)


تأملوا معي الآيات التالية:

 

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ) (محمد 25) 

 

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل 83) 

 

بقرارة أنفسهم يعرفون الحقيقة: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل 14) 

 

إنهم لا يكذبونك فلا تحزن، هم فقط جاحدون: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام 33) 


الحالة الثانية: عدم إيمان بسبب جهل وعدم علم كأن لم تبلغه رسالة الإسلام، أو وصلته منقوصة أو مشوهة... إلخ. مثلًا: هناك شعوب معزولة لم تسمع بالإسلام قط، وهناك شعوب سمعت به، لكنها لا تعرفه على حقيقته كأن تعتقد أنه ليس سوى دين إرهاب وقتل! وصلها الإسلام منقوصًا أو مشوهًا... هل هؤلاء يمكن أن نقول عنهم بأنه قد وصلتهم رسالة الإسلام الحقيقية؟


إن الصنف الذي لم يؤمن بالإسلام عن جهل أو عدم علم يظنه الكثيرون كافرًا وبأنه سيدخل النار، ولكن في الحقيقة لا يمكننا أبدًا الجزم بأنه سيدخل النار لأن آيات القرآن تدل على عكس ذلك: (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء 15) لن نعذب حتى يأتي الرسول... (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص 59). "من اهتدى فاتبع طريق الحق فإنما يعود ثواب ذلك عليه وحده، ومن حاد واتبع طريق الباطل فإنما يعود عقاب ذلك عليه وحده، ولا تحمل نفس مذنبة إثم نفس مذنبة أخرى. ولا يعذب الله أحدًا إلا بعد إقامة الحجة عليه بإرسال الرسل وإنزال الكتب." (التفسير الميسر).


يقول محمود شلتوت (الإسلام عقيدة وشريعة، ص19-20): "أما الحكم بكفره عند الله يتوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد [...] بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادًا واستكبارًا، أو طمعًا في مال زائل أو جاه زائف، أو خوفًا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر [أي أنه شخص لا يستطيع التفكير والفهم أو ساذج بليد العقل لا يستوعب الرسالة]، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبًا للحق، حتى أدركه الموت أثناء نظره -فإنه لا يكون كافرًا يستحق الخلود في النار عند الله.


ومن هنا كانت الشعوب النائية التي لم تصل إليها عقيدة الإسلام أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها -بمنجاة من العقاب الأخروي للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر.


والشرك الذي جاء في القرآن أن الله لا يغفره، هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار.. الذي قال الله في أصحابه (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)." انتهى كلامه.

  

ويوم القيامة: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك 8-11). من يدخل النار يُسأل: ألم يصلكم إنذار ونذير؟ مرّة سمعت أحدهم يقول معلقًا على جملة (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ) أنه لا أحد يدخل النار وهو غير مستحقٍ لها، حتى أهل النّار يعترفون بذنبهم ويعرفون خطأهم!


إن المبدأ الذي نؤمن به كمسلمين واضح في كتابنا وضوح الشمس، وهو أن الله لا يظلم أحدًا، بل بالعكس هو أرحم الراحمين. تأملوا هذه الآية: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء 165). أي: "أرسَلْتُ رسلا إلى خَلْقي مُبشِّرين بثوابي، ومنذرين بعقابي؛ لئلا يكون للبشر حجة يعتذرون بها بعد إرسال الرسل. وكان الله عزيزًا في ملكه، حكيمًا في تدبيره." (التفسير الميسر).


فالأمر بيد الله هو يحكم بين عباده، ونحن كمسلمين نؤمن أن الله أعدل العادلين وأنه لن يظلم أحدًا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس 44)، وهذه الثقة التي نملكها تجاه عدل الله تكفينا لنرتاح ونطمئن... وربما تقتضي عدالة الله أنه لا يوجد حكم واحد يعمم على الجميع، فالله أعلم بكل نفس وما أوتيت من دوافع داخلية تساعدها على البحث أو ظروف بيئية خارجية تؤثر على تصرفاتها. 


خلاصة الأمر أنه كمسلمين تكفينا المبادئ العامة التي تريح عقولنا وقلوبنا والتي أخبرنا الله بها في القرآن، لنرتاح ونطمئن لعدل الله ورحمته، فنعلم أنه عادل لن يجازي الإنسان إلا إذا قامت عليه البينة ووصله البرهان والحجة، ولن يكافئه إلا بما يستحقه، ولن يكلفه إلا وسعه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة 286). "دين الله يسر لا مشقة فيه، فلا يطلب الله مِن عباده ما لا يطيقونه، فمن فعل خيرًا نال خيرًا، ومن فعل شرّاً نال شرّاً. ربنا لا تعاقبنا إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا، أو أخطأنا في فِعْل شيء نهيتنا عن فعله، ربَّنا ولا تكلفنا من الأعمال الشاقة ما كلفته مَن قبلنا من العصاة عقوبة لهم، ربنا ولا تُحَمِّلْنَا ما لا نستطيعه من التكاليف والمصائب، وامح ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأحسن إلينا، أنت مالك أمرنا ومدبره، فانصرنا على مَن جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك، وكذَّبوا نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم، واجعل العاقبة لنا عليهم في الدنيا والآخرة." (التفسير الميسر).


ومن تمام عدل الله سبحانه وتعالى أن كل محسن سيجد ما عمله من خير صغر أو كبر، وأن كل مسيء سيجد ما عمله من شر صغر أو كبر: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة 7-8). أي عمل تعمله في حياتك أيها الإنسان ستجده أمامك سواء كان خيرًا أو شرًا، وهذا قمة العدل، ويغفر لك كل شيء إن شاء إلا أن تشرك به وهذا قمة الرحمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء 48)... إذن نحن كمسلمين يكفينا أن نثق بعدل الله ورحمته، لكن الحمد لله أن في قرآننا لا نجد ما نجده في الديانات الأخرى من أن كل من لم يؤمن فإن مصيره حتمًا في النار رغم أنه لم تصله الرسالة كما وضحت بالأعلى.

 

إذن نستفيد من آيات القرآن أن الحجة لا تقام على الإنسان إلا إذا بلغته الرسالة ولا نستطيع القول بأن كل إنسان ليس بمسلم فهو كافر كفر جحود وسيعذب! كلا، بل علمهم عند ربنا الذي لا ولم ولن يظلم أحدًا، ونرجو وفقًا للآيات عدم تكفير كل من لم يكن مسلمًا تحريًا لدقة عدل الله ورحمته، وهذا حسب فهمنا البشري المتواضع، والله أعلم. 


طالع أيضًا:

هل كفار اليوم في النار؟!

كيف يدخل عباقرة الجحيم لمجرد أنهم لم يؤمنوا؟



اقرأ المزيد »

الأربعاء، 13 ديسمبر 2023

هل تزوج أولاد آدم من أخواتهم؟

0


من الأفكار الشائعة لدينا أن الأرض تم تعميرها عن طريق زواج أولاد آدم بأخواتهم، حيث تزوج كل أخ بأخت له من بطن أخرى، لأنه لم يكن هناك بشر آخرون غير آدم وزوجته وأولادهما (واللذان يشيع تسميتها بقابيل وهابيل رغم أن هذا الاسم من الإسرائيليات ولا أصل له في ديننا)، وأن حواء كانت تحمل بتوأم مكون من ولد وبنت، فكان كل ولد يتزوج من الأخت غير التوأم له. ولتبرير هذا الزواج يقولون بأن زواج الإخوة ببعضهم البعض كان حلالا وقتها ولم يحرم إلا بعدها، وأنه كان لآدم وأولاده شريعة أخرى مختلفة عن شريعتنا لا تحرم زواج المحارم. فما مدى صحة هذا الكلام؟ 

بصراحة أنا مستغربة من مدى انتشار هذا الكلام الذي بالأعلى، وأغلبنا إن لم يكن كلنا كمسلمين سمعناه وتشربناه وكبرنا به، يقصوه ويحكوه علينا كمسلمة من المسلمات... وقد كنت أعتقد أن هناك حديثًا أو أحاديث واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوصه وإلا كيف يكون هذا الكلام منتشرا وشائعا بهذه الطريقة إن كان دون دليل يدلل عليه؟

لكن للأسف وبالبحث تبين لي أنه لا يوجد حقا دليل يقول بهذا الكلام! تخيلوا! 

جاء في موقع الإسلام سؤال وجواب: "أما كيف حصل تزاوج أولاد آدم عليه السلام، وكيف حصل نسلهم؟ فلم يثبت في القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة بيان ذلك، وإنما نسب إلى بعض الصحابة – ويحتمل أنه مأخوذ من كتب أهل الكتاب – أن آدم عليه السلام كان يولد لزوجه في كل حمل ذكر وأنثى، فيزوج ذكر حمل بأنثى حمل آخر، وهكذا تكاثر أولاده ." (1)

طيب ما مصدر هذه القصة إن لم تكن جاءت لا من القرآن ولا من السنة الصحيحة؟ هل هي من الإسرائيليات؟ 

عندما تبحث تجد أن أهل الكتاب أيضا يقولون بأن أولاد آدم تزوجوا بأخواتهم، فهل جاء هذا الكلام في الكتاب المقدس؟ بحثت فوجدت أن الكلام غير موجود في الكتاب المقدس (2)! طيب ما مصدره ولماذا يقولون به؟ يقولون به لأنهم يؤمنون أن آدم أول البشر وأنه لم يكن هناك بشر آخرون غيره وزوجته وأولاده، فما الحل إذن لكي يتكاثر الجنس البشري؟ الحل عندهم هو زواج الأخوات بالإخوة... فالأمر تخمين بشري بحت سواء عندهم سواء عندنا، ولا دليل عليه لا في كتبهم ولا في كتبنا! فالأمر لا أصل له حتى لمن يحبون الأخذ من الإسرائيليات ويرون جواز الاستناد عليها في القصص.

معنى هذا الكلام أن إشكالية زواج المحارم بين أبناء آدم عبارة عن إشكالية مصطنعة من قصة مصطنعة لا أصل لها! يعني لا توجد شبهة في الموضوع لأن القصة غير موجودة أصلا، وهي مجرد اختراعات وتخمينات بشرية كتب لها القبول والانتشار في أوساط المسلمين لسبب أو لآخر! 

لم نكن لنعترض عليهم لو قالوا بوضوح وصراحة هذه تخمينات بشرية لم ينزلها الله، وهي افتراضاتنا نحن البشر التي لا تلزم أحدا... لكن الاعتراض أن يتم عرض هذه القصة كأنها مسلمة من المسلمات التي لا شك فيها، حتى بتنا نعتقد لها أصلا في حديث صحيح! والمضحك المبكي عرضها كمسلمة من المسلمات ثم محاولة تبرير الشبهة وتلفيقها بقولهم أن زواج المحارم كان حلالا وقتها! وطبعا لا دليل على قولهم أنه كان حلالا!!

لكن، كيف انتشر النوع البشري؟ بمن تزوج أولاد آدم لكي يتكاثروا؟

هذا الأمر من المسكوت عنه، لم يذكره لنا القرآن، ولم تصلنا سنة صحيحة في خصوصه... والأمر المسكوت عنه ليس مهما ولا يهمنا من الناحية العقدية الدينية، يعني هو أمر هامشي جدا. 

لكن كونه متروكا ومسكوتا يعني أنه يمكن للبشر البحث فيه بما يملكون من معارف وأدوات وعلوم... لكن ما هي المعارف التي نملكها اليوم ويمكن أن تفيدنا بهذا المجال؟

في وقتنا الحالي ما توصل له علمنا بخصوص خلق الإنسان هو نظرية التطور، ولو قبلنا بمعطيات هذه النظرية فيمكننا وضع افتراض هو أن آدم عليه السلام خُلق من سلالة بشرية عريقة تطورت عبر السنين، أي كان لآدم عليه السلام أم وأب، وكان هناك بشر آخرون وشعوب وأجناس أخرى معه، يصلح أن يتزوج بهم أولاده. وهذا افتراض بشري بحت، ويبقى العلم عند الله سبحانه وتعالى.


راجع أيضا:

آدم بين نظرية التطور وقصة الخلق

هل من نقطة التقاء ممكنة بين الدين ونظرية التطور؟

هل نظرية التطور متوافقة مع القرآن



مصادر:

(1)

(2)


اقرأ المزيد »

الجمعة، 17 نوفمبر 2023

لماذا لم يلغ الإسلام العبودية؟

0


ظاهرة الرق عرفتها أغلب المجتمعات وكانت موجودة في بقاع الأرض شرقا أو غربا، وتعتبر أمرًا عاديًا جدًا ولم نسمع أن قانونًا سنّ لاستنكارها أو إيقافها أو الحدّ منها أبدًا في العصور السحيقة... فمن المعروف بأن الشعوب في الماضي كانوا يستعبدون أيا كان من مستضعفين يتحصلون عليهم من قطع الطرق أو الحروب أو الاعتداء، أو من الفقراء كمن لم يستطع سداد ديونه، أو باع أولاده بسبب العالة... إلخ. ويستخدم هؤلاء العبيد المساكين في أكثر الأعمال مشقة ويعاملون معاملة قاسية ظالمة بدون حقوق لهم. فجاء الإسلام وكان أول من قام بقفزة هي الأولى من نوعها، حيث حرّم استعباد الأبرياء من الناس، فلا يجوز بأي حال من الأحوال ترويع الأبرياء والاعتداء عليهم وتحويل الأحرار لعبيد، فهذا ظلم كبير... والقرآن أول شريعة تحرّم استعباد الأبرياء من الناس وهذا قبل قرون وقرون من عصرنا الحديث حين اتفقت الدول على منع العبودية! 


مجال الاستعباد الوحيد الذي ظل مفتوحًا مع ظهور الإسلام هو مجال استعباد أسرى الحرب، ومفتوحًا لا يعني أن الإسلام يأمر به أو يشجع متبعيه على تبنيه، مفتوحًا يعني أنه بقي موجودًا، كما يجب التنويه إلى أن القرآن واضح وصريح بأن المسلم لا يحق له التهجم على من لم يقاتله ولم يعتد عليه، فالاعتداء على الآمنين والإفساد في الأرض لا يجوز، فالذي يحارب المسلمين ويعتدي عليهم هو من وضع نفسه بموقف قد يعرضه للأسر والاستعباد، ولم يجبره أحد عليه! ولا يُشترط استعباد الأسرى في الإسلام، بل أصلًا لم أجد أي نص لا بالقرآن ولا السنة يأمر المسلمين باستعباد الناس، بل إن الخيارات المطروحة بالقرآن في حق الأسرى هي إما إطلاق سراحهم منًا وتفضلًا أو جعلهم يفتدون من أجل حريتهم لقاء مال أو غيره: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد 4). أي أن من حارب المسلمين وروّع الآمنين فانتهى به الأمر كأسير، يمكنكم إما أن تمنوا عليه بإطلاق سراحه مجانًا دون مقابل، أو أن يدفع هو مالًا لقاء حريته وإطلاق سراحه من الأسر، أو ربما يتم تبادل الأسرى بين المسلمين والأعداء... لاحظوا كيف أن الاستعباد غير مطروح كخيار بالآية، بل كما وضحنا فإن بالقرآن بأسره لا توجد آية تأمر باستعباد الناس. يقول محمد رشيد رضا (تفسير المنار، يونس 2) فيما يخص هذا التخيير المطروح بالآية بين المن والفداء: "ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام؛ فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز، لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي. ولكن الآية ليست نصا في الحصر، ولا صريحة في النهي عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية، فبقي حكمه محل اجتهاد أولي الأمر، إذا وجدوا المصلحة في إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة في ترجيح المن عليهم بالحرية -وهو إبطال اختياري له - أو الفداء بهم عملوا به."


لكن حتى لو انتهى الأمر بهذا الشخص المحارب الذي وقع أسيرًا كعبد فيمكننا اعتبار الرق في حقه عقوبة، مثلها مثل السجن، فهذا الشخص كان مقاتلًا شريرًا يريد قتلنا، أي أن الرق لم ينزل على الشخص ظلما وعدوانا دونما سبب. وربما الرق أفضل وأريح له من السجن، فعلى الأقل حين يكون عبدًا يحق له التنقل والخروج ورؤية الدنيا وتنفس الهواء والالتقاء بالناس وتكوين المعارف والصداقات وحتى الزواج وإنشاء أسرة بدل أن يظل حبيس غرفة مربعة، وعمله في خدمة سيده ربما أهون من أن يعمل في أعمال السجن الشاقة، ناهيك على وجود احتمالٍ عالٍ جدًا في أن يُطلق سراحه (كما سنشرح أكثر في الأسفل). 


إن من يحارب المسلمين هو من عرّض نفسه لاحتمالية أن يصبح عبدًا، تماما كما قد يعرض نفسه للقتل أو الإصابة أو الإعاقة في الحرب. وبالرغم من أنه كان محاربا مقاتلا إلا أنه حين يكون أسيرًا في يد المسلمين، يوصي القرآن بالإحسان له، حيث إن إطعامه يعتبر صدقة يؤجر عليها المسلم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان 8 - 9). ذُكر إطعام الأسير في سياق إطعام المسكين واليتيم! وشتان بينهما وبين الأسير! لكن القرآن يعوّد القلوب البشرية على الرحمة والعطف على كل محتاج وإن كان أسيرًا! ولاحظوا التعبير البليغ (عَلَىٰ حُبِّهِ)، هم يطعمون هذا الطعام رغم أنهم يحبونه ويريدونه ويحتاجون إليه، والمقابل؟ لا نريد منكم أي مكافأة، ولا حتى كلمة شكرًا نريدها... أحيانا شخص قريب يسديك خدمة أو معروفًا فيظل يمنّ عليك حتى يكرّهك في المعروف وأهله! لكن بالقرآن نرى صورة الشخص الذي يقدم دون انتظار المقابل... من جمالية القرآن أنه كثيرا ما يضيف لمسة أخلاقية إنسانية لكل حكم يقرره. أين هذا التعامل الإنساني الراقي الذي ينادي به القرآن مما نراه في واقعنا المرير من مفاجع ما يحصل في سجون الطواغيت؟ والتي تجعل القلوب تتألم لما يحصل فيها من انتهاكات لأبسط الحقوق الإنسانية. حتى لو كان من بالسجن أعتى الأشرار، فذلك لا يبرر إيذائه وتعذيبه... في القرآن الأسير يُعامل معاملة إنسانية رحيمة، رغم أنه كان بالأمس يريد قتلنا وترويعنا! 


والإسلام حد علمي هو أول (بل هو الوحيد) من سنَّ تحرير العبيد على أتباعه كجزء من تعاليم الدين، فجعل أجورًا عظيمة لمن يعتق رقبة، فالقتل الخطأ دون قصد كفارته إعتاق رقبة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92).


ومن يخلف يمينه، ومن يظاهر زوجته أيضا: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة 89)، وأيضًا: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة 3-4).


وبعيدا عن الكفارات فإن إعتاق الرقاب له أجر كبير وهو أحد أنواع الصدقات والزكاة المفروضة على المسلمين: 


(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة 60) 


(۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة 177). وجملة (وَفِي الرِّقَابِ) يُقصد بها تحرير العبيد.


ومن عليه ديون أو هو فقير ومحتاج فالمجتمع مطالب بمعونته وصرف أموال الزكاة من أجله لا استغلاله باستعباده واستعباد أطفاله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة 60). والغارم هو من أثقلته الديون ولا يستطيع سدادها.


وإضافة لهذا جعل القرآن حقّ الحرية بيد العبد نفسه! نعم بيد العبد نفسه حيث يأمر القرآن سادة العبيد على القبول بالمكاتبة وهي أن يعمل العبد ليدفع مبلغًا لسيده فيحصل على حريته مقابل ذلك المبلغ: (... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...) (النور 33). لاحظوا جملة (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، والتي فيها حث على إعطاء هؤلاء العبيد من المال لنساعدهم على المكاتبة والتحرر، أو ربما أن يعفيهم أسيادهم من مبلغ المال فيحررونهم بدونه، أي أن المجتمع الإسلامي كله بما في ذلك سادة العبيد مكلفون بمعاونتهم لينالوا حريتهم. وقد قال بعض أهل العلم أن الأمر بالمكاتبة والأمر بالإعانة عليها واجب بنص هذه الآية (راجع الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، ص343-344). 


ونفهم من الآية السابقة أن القرآن أعطى حق العبد العمل والاكتساب وأعطاه حق الملكية لما يجنيه من مال وممتلكات، ويدخل في ذلك أيضًا حق المهر للنساء: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة النساء 25). فالقرآن كفل لهم حق الزواج ومساعدتهم في ذلك لو أرادوا: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ ٌ) (سورة النور 32). 


وحرّم أيضا ظلم العبيد وما كان يحصل كإجبارهم على أعمال أو أفعال يكرهونها أو لا تليق كالبغاء: (... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور 33). وهكذا يعيد الإسلام برمجة العقل البشري الذي تعود على استعباد واستحقار واستصغار واستغلال من هم أضعف منه وتحته من بشر.


صورة العبودية في ظل الإسلام تختلف تمام الاختلاف عمّا يبدر في أذهان الناس نتيجة ما نعرفه من تاريخ البشرية الأسود في حق العبيد، وما تصوره الأفلام والبرامج التلفزيونية، من قهر وظلم وتعذيب وتنكيل ومجازر... تعاليم الإسلام توجب أن يعامل العبد كعاملٍ يعمل في بيت سيده، عليه أعمال يقوم بها ويلقى مقابل ذلك المأوى والمأكل والملبس، إنسان مكرّم له حقوق وواجبات. والأحاديث النبوية مليئة بالعشرات والعشرات من التعاليم السامية في حق العبيد، توجب الإحسان لهم وتحرم ضربهم وظلمهم وإهانتهم وتأمر بإلباسهم مما نلبس وإطعامهم مما نأكل.


طبعا قد يأتي شخص ويقول: "لماذا لم يأمر الإسلام بإطلاق سراح جميع العبيد وتنتهي العبودية بكل بساطة؟". بالرغم من أن الاعتراض قد يبدو وجيها إلا أنه يخلو من الواقعية، فالرق كان متجذرا في المجتمع ويعتبر نسيجا من أنسجته، والعبيد كانوا يمثلون شريحة كبيرة منه، وكانوا معتمدين على أسيادهم في كل شيء، والعبد كأنه فرد من العائلة يلحق بها ويسكن معها (رغم أنه قد لا يعامل كذلك بالضرورة)، هذا ناهيك على أن جزيرة العرب كانت صحراء قاحلة يكثر فيها الفقر والمجاعات، فلو أطلقنا سراحهم فجأة فإننا سنتسبب بأزمة إنسانية قاسية، فتحريرهم مثل إلقائهم بالشارع دون معيل ودون داعم ودون مأوى يؤويهم... خصوصًا أن كثيرًا منهم قد لا يكون من تلك المنطقة أساسًا بل ربما جيء بهم ظلمًا وعدوانًا من مناطق أخرى نائية جرّاء المتاجرة والعدوان وقطع الطرق... أيضًا ربما من الظلم لأسياد العبيد أن نأمرهم بإطلاق سراح عبيدهم فجأة هكذا دون مقدمات، لا ننسى أن العبيد كانوا يمثلون للبشر قديمًا ثروة مثلهم مثل المال وغيره من ممتلكات شخصية، وربما بعضهم لا يملك إلا عبيده، تخيل أن يأتي شخص ويقول للناس بالمجتمع من الآن فصاعدًا عليكم جميعا أيها البشر أن تتخلوا عن سياراتكم أو بيوتكم أو أثاثكم الآن وحالًا تقومون بالتبرع بهذه الممتلكات والتنازل عنها (مع فارق التشبيه بين الإنسان والماديات، لكن نحن نتحدث بوجهة نظر العصر الجاهلي الذي كان يرى العبد من الممتلكات الشخصية)!! إنه ليس بأمر بسيط أو سهل، سيلقى مقاومة شديدة من الناس وسيتسبب بأزمة كبيرة. 


والتاريخ البشري يُثبت لنا صعوبة الأمر، فمثلًا حين نقرأ عن الحرب الأهلية الأمريكية ندرك أن موضوع تحرير العبيد لعب دورًا محوريًا وأساسيًا في إشعال هذه الحرب (1). وكذلك حين نقرأ عن حركة تحرير العبيد نعرف أنها لم تأتِ هكذا فجأة ولم يكن مفعولها فوريًا، بل أخذ الأمر سنينًا حتى استقر وتم (2)، بل أصلًا ما زالت هناك مناطق في العالم تستعبد الناس ومازال عدد لا يستهان به من البشر يخضعون للاستعباد أو لظروف استعبادية هذا رغم أن القوانين تحرم ذلك... أحيانًا أنظر لأوضاع بعض الطبقات العاملة في مجتمعاتنا الحضارية المتطورة بمرتباتهم الزهيدة وظروفهم القاهرة فأشعر أن الرق لم يختف من عالمنا بل بدّلناه بشكل جديد وألبسناه حلة جديدة... 


ثم إن علينا أن نسأل ما مصير الملايين من العبيد الذين تم تحريرهم؟ أين ذهبوا وهل استطاعوا توفير أرزاق أنفسهم وإيجاد وظائف يعملونها؟ هل كان مصيرهم تلك الصورة الوردية الجميلة التي نرسمها في مخيلاتنا؟ للأسف فإن في أمريكا وحدها كان مصير المئات من العبيد المحررين، بل الآلاف منهم الموت جوعًا أو مرضًا جراء نقص الموارد والظروف غير الصحية في المخيمات التي أقيمت لإيوائهم (3، 4)! حتى أن أحد المؤرخين سمّاها أكبر أزمة حيوية مررنا بها في القرن التاسع عشر، بل إنه يرجح أن ما يقارب الربع من الأربعة ملايين عبدًا الذين تم تحريرهم إما مات أو أصيب بالأمراض (4). فتخيلوا ماذا سيكون مصير العبيد في صحراء عربية قاحلة لو أطلق سراحهم فجأة.


لا يفهم من كلامي أني أبرر العبودية، بل أنا أدعو إلى الواقعية، فإن كان تحرير العبيد قد قوبل بكل تلك العراقيل والمشكلات في عصر قريب من عصرنا كان البشر فيه أكثر تطورًا وعلمًا فما بالك بعصور ساحقة هي أكثر تخلفًا وشحًا في الموارد... فحل القرآن كان هو الأكثر واقعية ومنطقية في تلك الحقبة، إذن لا يحق لأحد أن يعترض على هذا الحل القرآني التدريجي لمشكلة العبيد، لأنه كان مناسبًا لظروف الزمان والمكان التي تولد فيها.


من الواضح أن القرآن يكره أن يبقى الناس عبيدًا تحت وطأة الرق، فشرّع لحلول تدريجية عملية، حيث قام أولا بتجفيف منابع الاستعباد وتحريم استرقاق الأبرياء من الأحرار، وهذا في حد ذاته 


الآيات التي ذكرناها بالأعلى -وغيرها- والتي تحث الإنسان على تحرير أخيه الإنسان العبد، سواء عن طريق التصدق، أو عن طريق التكفير عن سيئاته، أو عن طريق المكاتبة تدل على أن القرآن يكره الاستعباد، ويراه حالة غير طبيعية يجب العمل على إزالتها، والحث على ذلك بشتى السبل والطرق الممكنة (وإلا لما طالب القرآن المسلمين بتحرير العبيد بكل تلك الطرق)، وهذه الحلول القرآنية تدريجية لكنها عملية وتعني أن إنهاء العبودية في أوساط المسلمين مسألة وقت فقط، فكون مصدر العبيد غير متجدد يعني أن أعدادهم مآلها إلى الزوال بموت أو تحرير العبيد الموجودين... وهذا الحل أقرب لواقع حياة البشر آنذاك، وأجزم بأنه لو تم اتباع النظام القرآني بحذافيره لكانت العبودية ستنتهي ولا يبقى عبيد في أوساط المسلمين ربما في خلال قرن أو قرنين على أقصى تقدير، لكني أعتقد أن المسلمين لم يطبقوا تعاليم القرآن بالضرورة بخصوص العبيد للأسف، وخرجوا عن هداياته فزادت أعدادهم بشكل خيالي بدل أن تنكمش... لكن تلك قصة أخرى تخرجنا عن السياق.


يذكر منقذ بن محمود السقار (في كتابه تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين ص294) فكرةً جديرة بالملاحظة، وهي أن آيات القرآن فيها ما يمكن أن يُفهم على أنه تنبؤ بنهاية العبيد واختفاءهم من المجتمع، وكأن القرآن يدلنا إلى مآلات الأمور الحتمية المرجوة، ففي الآيات التي تسن تحرير العبيد ككفارة للذنوب دومًا نجد خيارًا آخر يُطرح لمن لم يجد أن يحرر رقبة: (... وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92)، وأيضًا: (... تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ ...) (المائدة 89)، وأيضًا: (... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ...) (المجادلة 3-4)... طبعًا المقصود الشائع هو أن من لا يملك القدرة على إعتاق الرقبة لفقره مثلًا فعنده هذه الخيارات أخرى، لكن المعنى الآخر الذي ذكره منقذ بكتابه قد يكون محتملًا أيضًا وواردًا رغم ظنيته.


إذن الإسلام لم يأمر إطلاقًا باستعباد الناس، بل كان الرق أمرًا قائمًا موجودًا في المجتمع، فعمل الإسلام على حل هذه المشكلة بتحريم استعباد الأبرياء من الأحرار، أما من كانوا عبيدًا من قبل فإنه حث على إطلاق سراحهم بشتى الوسائل الممكنة، بينما جعل سبيل حريتهم بيدهم عن طريق المكاتبة، والمجتمع المسلم مطالب بمعاونتهم في ذلك، وعلى افتراض أن لم يعفُ عنه أحد ولم يجد المال ولم يعاونه أحد للمكاتبة وتحرير نفسه فبقي عبدا، فالإسلام لا يعامله كعبد بل كإنسان كامل الإنسانية لا يهان، وله حق الزواج والملكية... وسواء اتفقت مع هذا المنهج القرآني أم لم تتفق، فإن الإنصاف يُلزمك بالاعتراف بسموه وإنسانيته ومغايرته تمامًا لما كان سائدًا... فمن ألهم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا؟


المصادر:


(1) Chandra Manning, Excerpt from "What This Cruel War Was Over", Penguin Random House Canada, March 11, 2008


(2) Abolitionist Movement, History.com, October 27, 2009 (original published date), November 10, 2021 (last updated)


(3) Jim Downs, Emancipation, sickness, and death in the American Civil War, Perspectives|The art of medicine| Volume 380, ISSUE 9854, P1640-1641, November 10, 2012


(4) Jim Downs (Sick From Freedom) as cited in: Paul Harris, How the end of slavery led to starvation and death for millions of black Americans, TheGuardian.com, Sat 16 Jun 2012 13.06 BST


اقرأ المزيد »

الثلاثاء، 17 أكتوبر 2023

ما صحة المرويات التي تنتشر في أوساط المسلمين بخصوص الكعبة والحجر الأسود؟

0

 


ما صحة المرويات التي تنتشر في أوساط المسلمين بخصوص الكعبة والحجر الأسود؟


جاء في تفسير المنار (البقرة 127-129): "قوله -تعالى-: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله -تعالى- في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله -تعالى- علينا، وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت، وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه، وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان، ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها. ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم، ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحواء في عرفة، بعد أن كانت قد ضلت عنه بعد هبوطهما من الجنة، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدة. وزعمهم أنها هبطت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان وحليت بالحجر الأسود، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء -وقيل: زمردة- من يواقيت الجنة أو زمردها، وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخض الجبل فولدها، وأن الحجر إنما اسود لملامسة النساء الحيض له، وقيل: لاستلام المذنبين إياه، وكل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه.

الأستاذ الإمام: لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا: إن الحجر الأسود منه؛ لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، ولكنها إذا راقت للبله من العامة، فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف - هذا الضرب من الشرف المعنوي- هو ما شرفه الله -تعالى-، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله -تعالى- إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بأنه من عالم الضياء، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله - تعالى - إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.

[...] والحديث يرشدنا إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة، وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان، ولا تحصره جهة من الجهات، على أنه قد غرز في طبائع البشر تكريم البيوت والمعاهد، والآثار والمشاهد التي تنسب للأحياء، أو تضاف إلى العظماء [...]." انتهى كلامه.

طالع أيضا:







اقرأ المزيد »

الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

حقيقة الدابة التي تكلم الناس - علامات يوم القيامة

0

[...] هذه الدابة قد قيل في شأنها [الكثير]، وعملت فيها الروايات والآثار عملها المعروف في كل أمر غيبي أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيان قاطع عن الرسول عليه الصلاة والسلام قيل ذلك في حقيقتها، وقيل في صفتها، ومن أغرب ما قيل في حقيقتها أنها إنسان، وأنه علي رضي الله عنه وقيل: إنها ولد ناقة صالح فر هاربًا حينما عقر القوم أمه [...].

ومن أغرب ما قيل في صفة الدابة أن طولها ستون ذراعًا [...]، وأن لها مع جميع دواب الأرض مشابهة تامة في عضو من أعضائها: فلها وجه إنسان ورأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل [...].

وقال الإمام الرازي بعد أن حكى هو أيضًا شيئًا من أخبارها: "واعلم أنه لا دلالة في الكتاب في شيء من هذه الأمور؛ فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل، وإلا لم يلتفت إليه" وهو يعني أنه لا يصح من أخبارها شيء غير المذكور في القرآن الكريم.

إسرائيليات مضللة يجب تنقية التفسير منها:

هذا. وقد فات المفسرين أن يضعوا حدًا لصون التفسير عن هذه الإسرائيليات التي أظلمت الجو على طلاب الهداية القرآنية، وشغلتهم عن اللب والجوهر بما ألصقته بالقرآن، وقصروا جهودهم على النبش فيما ألصق!

وليس هذا خاصًا -كما قلنا- بالدابة، وإنما هو ريح السموم هبت على كتب التفسير من نواح كثيرة في كل أمر غيبي أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيان قاطع عن الرسول عليه السلام. فقد قيل مثله في "يأجوج ومأجوج" وفي "الصور" وفي "اللوح المحفوظ" وفي غيرها.

وقد تتبع بعض المفسيرين غرائب الأخبار التي ليس لها سند صحيح، وأغدقوا من شرها على الناس وعلى القرآن، وكان جديرًا بهم أن يقيموا بينها وبين الناس سدًّا يقيهم البلبة الفكرية فيما يتصل بالغيب الذي استأثر الله بعلمه، ولم ير فائدة لعباده في أن يطلعهم على شيء منه. وإذا كان للناس بطبيعتهم ولع بسماع الغرائب وقراءتها، فما أشد أثرها في إلهائهم عن التفكير النافع فيما تضمنه القرآن من آيات العقائد والأخلاق وصالح الأعمال!

الوقوف في شئون الغيب عند النصوص:

والذي أحب أن أقرره هنا -بهذه المناسبة فيما أخبر الله به من شئون الغيب التي لم يتصل بها بيان قاطع عن الرسول من الدابة، والصور، ونحوهما- هو:

أنا نؤمن به على القدر الذي أخبر الله به دون صرف اللفظ عن معناه، ودون زيادة عما تضمنه الخبر الصادق: فنؤمن مثلا بأنه سيكون في آخر الدنيا صور ينفخ فيه، فتكون صعقة، ثم ينفخ فيه أخرى، فيكون البعث؛ أما الخوض في حقيقته ومقداره وكيفية النفخ فيه، أو حمله على أنه تمثيل لسرعة إفناء العالم وبعثه بسرعة النفخة المعروفة للناس، فإنه رجم بالغيب، وتقول على الله بغير حق.

ونؤمن أن القرآن -كما أخبر الله- في لوح محفوظ، أما الخوض في حقيقته أو تأويله بأنه تمثيل لصونه عن التغيير والتبديل؛ فإنه رجم بالغيب، وتقول على الله بغير حق.

فتاوى الإمام محمد رشيد رضا
كتاب "فتاوى الإمام محمد رشيد رضا"

م
اذا يجب أن نعلمه عن الدابة:

وعلى هذا، بالنسبة إلى الدابة -نؤمن بأنه حينما يقع أمر الله [...]، ستظهر للناس دابة، ولكن: هل تتولد من الأرض، أو هي من دوابها؟ ذلك يعلمه الله. وهل هي صغيرة أو كبيرة، وعرضها كذا وطولها كذا. وهل تحمل معها عصا موسى، وخاتم سليمان أولا تحمل شيئًا؟ ذلك يعلمه الله؛ نؤمن فقط أن دابة ستخرج وتكلم الناس، هل تكلمهم بلسان عربي ذَلْقٍ، أو بغيره؟ كذلك هذا يعلمه الله، نؤمن بها وبكلامها دون استبعاد أو إنكار. 

نعم. يجب الوقوف في الإيمان به عند الحد الذي جاء به الخبر الصادق، ولا ينبغي التصرف فيه بالحمل على التمثيل، أو الزيادة عليه، وضم شيء إليه، فضلا عن استبعاده أو إنكاره؛ وهذا هو شأن المؤمنين بالله، وبكتابه وغيبه.

المصدر: الفتاوى؛ محمد شلتوت: ص54 إلى ص58
اقرأ المزيد »

الأربعاء، 16 أغسطس 2023

أهمية تفعيل الحس الأخلاقي لدى المسلم

0


توجد لدينا مشكلة كبيرة ألاحظها منذ زمن تتمثل في حلول الفقه محلّ الأخلاق والحس الأخلاقي

شاهدتها سابقاً لدى من كان يدافع عن مشروعيّة عقوبة "حرق البشر أحياء" لأن في الموروث الفقهي آراءً تبيح ذلك. وهناك بالمقابل من "دافع" عن الموروث الفقهيّ بقوله إنه لولا الآراء الأخرى التي تحرّم حرق البشر لما استطعتم استنكاره! مع أنك لو سألت شخصاً لادينياً فعلى الأرجح سيجيبك بأنه أمر في غاية الشناعة والبشاعة.. الأمر لا يحتاج إلى دينٍ حتى، والمفترض ألا ننتظر الفقه ليحرّمه حتى نستنكره ونعتقد بإثمه، أي أن يكون لدينا حسّ أخلاقيّ مستقل عن الفقه. (يعلّق البعض هنا بأن الأحكام الأخلاقية للّادينيّ فيها قدرٌ من الاعتباطية والتأثر بالإعلام ولا يُبنى عليها، وهذا صحيح، ولكن في هذه الحالة فالإسلام لديه فلسفة وتوجه في الحرب والتعامل مع العدو، وتعذيب الأعداء مما حرّمه الإسلام وضوحاً ويخالف مجمل توجّهه، ولعل الإسلام أول تشريع يتعامل برحمةٍ مع الأعداء أصلاً وهذه المسألة من ضمن ما يدركه اللاديني بفطرته لا تأثرا بأحد). 

وسمعت سابقاً عمّن استحلّ القطيعة الكاملة فوق ثلاثة أيام -بل فوق ثلاث سنوات- لأنه وجد رأياً يبيحها.. وكأن وجود هذا الرأي يغيّر من تقييم الفعل..

وسمعت من يقول حرفياً بأن كل طلاقٍ أخلاقيّ بالضرورة ولا يمكن أن يكون خاطئا أو تعسفياً أو مضرًّا بحال طالما أنه مباح شرعاً.

هناك من يقصر حسه الأخلاقي على أحكام الفقه الخمسة ولا يعترف بمصدر أخلاقي سواها، وسيكفيه إيجاد مستندٍ فقهيّ يجعل الفعل مباحاً -أو مختلفاً عليه-، فلا يعود هناك مكان للضمير أو الأخلاقية .. ويتحول الخلاف المهمّ والخطير حول أخلاقيّة الفعل ومدى سلامة عواقبه إلى خلافٍ فقهيٍّ مشروعٍ واجتهاداتٍ مختلفة صحيحة ومتساوية!

أفعال تنظيم داعش بمجملها لديها آراءٌ فقهية كثيرة تستند إليها.. ومن لم يوصله ضميره وتفكيره وحسّه الأخلاقي إلى فساد منهج داعش وإجرامها فغالباً لن ينفع معه النقاش في الأدلة الشرعية فهناك آراء وتفسيرات على الجهتين.. ليست الأدلة الشرعية هي ما يفترض به أن يقنعك بلاأخلاقية داعش، وليس المفترض بك أن تظل حائراً في مدى سلامة منهج داعش حتى تجد دليلا نصيًّا يخبرك بالجواب.

بل إن هذا يقزّم الخلاف الأخلاقيّ والإنسانيّ العميق مع كلٍّ من التصرفات السابقة ويختزله إلى مجرد اختلافٍ في فهم النّصوص الشرعية والاجتهاد الفقهي.


تحدّث الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن هيمنة الفقه على علوم الدّين نفسها حتى صار القرآن يُقرأ على أنه فقه والسّنة تُقرأ على أنها فقه، ويتم تناسي الأخلاقيّات والكونيّات والحكمة والتفكر في سنن نهوض وسقوط الأمم. وتحدّث الدكتور جاسم سلطان عن نفس المعنى ذاكراً ما حصل للشّورى؛ فبدلا من أن تُدرس الشورى كأداةٍ لا غنى عنها لبقاء الحضارات وازدهار الدول والمجتمعات، وتوضع نظريات ودراسات معمّقة في كيفية تطبيقها، دُرست على أنها مسألةٌ فقهية، فضاعت ما بين قائل بأنها مُلزمة وقائل بأنها غير ملزمة واستوى الرأيان ولم نستفد شيئا من آيات الشورى حيث صار الآخذ بها وغير الآخذ بها كلاهما ملتزمَين بتشريع الله في الشورى! (هنا يتغوّل الفقه ليس فقط على مساحة الأخلاقيّة بل أيضا على مساحة الحكمة والتّفكير في سنن الحياة كقيام وسقوط الحضارة .. ما هو الردّ على من يقول بأن الالتزام بالشورى ليس اختياريا بل هو أمرٌ ضروريّ ولازم لقيام الحضارة فضلا عن كونه أكثر أخلاقية؟ الرد طبعا هو أن عدم الأخذ بها أيضاً مباح فقهياً، إذاً فهو جائز أيضاً!).

يمكن تسمية هذا بالبارادايم الفقهي أي الإطار الفكري الذي يسيطر على العقل ويشكّل نظرة الإنسان للأمور وفق الأحكام الخمسة حصراً، فلا يعود هناك بالنسبة له معنى لضروريّة شيء إلا عبر كونه واجباً فقهيا، ولا يستطيع التفكير في لاأخلاقية شيءٍ إذا كان مباحاً فقهيا، مع أن أخلاقية الشورى وضروريّتها لبقاء الحضارة أهمّ وأقوى بكثير من أن تحتاج لإيجاب فقهي.


 

في قضيّة تعدد الزوجات هناك كذلك حالات عديدة لزيجات تعسّفية من أجل نزوات واهية تُحدِث أضراراً نفسيةً بليغة وتحطم أسراً بأكملها، مدعومةً بخطاب فقهي لا مكان فيه لأخلاقية التصرف أو حكمته وحساب عواقبه ويصطف بجانب الزّوج في جميع الأحوال ولو عدّد في السّر دون علم زوجته، ويجرّم رفض الزوجة ويحرّم عليها حق الطلاق حتى -بعكس ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع فاطمة وعلي في القصة المعروفة-.

المشكلة المذكورة لا تشمل من يدافع عن أخلاقية التّعدد لأسبابٍ معينة يرى أنها تجعله أخلاقيا في حالات حيث يمكن مناقشتها معه، لكنها تشمل من ليست لديه أسبابٌ حقيقية لاعتباره أخلاقيا ويدافع عن أخلاقيته فقط لأن الفقه يبيحه في كلّ الحالات أي أنه يساوي بين المباح والأخلاقي. وهذا الشخص لا يمكن مناقشة الأخلاقية معه حيث ليس لها وجودٌ مستقلّ في قاموسه وفي جهاز الاستقبال الذهني الخاص به.


 

من حيث المبدأ فالمشي في الشارع مباح شرعاً ومع هذا قد تفرض الدولة حظر تجول إذا كان في ذلك مصلحة، وقد نُحذّر بشدة من المشي في الشارع إذا كان من الممكن أن يؤدي إلى أذى. وكذلك أكل اللحم مباحٌ ورغم هذا سنستنكر أكل اللحم أمام فقير لم يتذوقه منذ سنة، وسنراه فعلا آثما. فدخول عنصر الأذى إلى المشهد يغيّر تقييم الفعل كله.. ليس هناك أذى مباح. ويبدو أنه لن ينزعج أحد مما سبق بحجة أنه تحذير مما أحلّ الله أو اعتراضٌ على شرع الله في إباحة المشي في الشارع أو إباحة أكل اللحم.. من الذي قال إن المباح أخلاقي دوماً أو حكيم دوماً؟

الأمر ذاته ينطبق على الزواج من الفتيات القُصّر، والذي يُستباح لعدم تحديد الفقه لسنٍّ أدنى لصحّة الزواج.. وينطبق أيضاً على الزواج من الكتابية لمن يعيش في الغرب مثلا، والذي قد نحذّر منه لما قد يتبعه من انحرافٍ في بوصلة الأبناء.. وهذا ليس تحريماً للحلال، بل وضعٌ للأمور في محلها، وتصرفٌ بحكمة. 


 

الشقّ الثاني من المشكلة هو أن هذا الفقه المتغوّل نفسه نحا في بعض الأمور منحى الحكم القانونيّ وصارت أحكامه قوانين لا أخلاقا .. فصار المباح بلغة فقه المعاملات هو المتاح قانونياً وليس الأخلاقيّ بالضرورة أو حتى الحياديّ أخلاقيا.. في حين أنّ ما يريد الإله منا فعله هو الأخلاقي وما سيعاقبنا على فعله هو اللاأخلاقي.

لذا، فإباحة الفقيه لا تغني عن الضّمير أو الحكمة ولا تشفع لمن خدع ضميره أو عطّل عقله. والحساب الأخرويّ يتعلق بأخلاقية الفعل في كل حالة والاجتهاد في استخدام العقل وحكمة التصرف، فإذا كان أي فعلٍ لاأخلاقياً فهو آثم ولو أباحه الفقيه أي جعله متاحاً، وهكذا أفهم الدين كله. 

ما دور الضمير ولماذا يوجد أصلا إذا كانت جميع الأمور مقننةً مسبقاً بحكم محدد وتقييمها الأخلاقي معروفاً سلفاً! هل يظن الإنسان أنه استغنى عن الضمير بوجود الفقه!

من الغنيّ عن القول أنه لا ينبغي إلغاء القوانين، ولكنّ اختزال كيفيّة الحساب الإلهي للإنسان في مجموعة القوانين يتيح المجال لإيجاد تخريجات قانونيّة تحتال على المقصد الأخلاقي بأفعال لاأخلاقية دون أن تستطيع القوانين إدانتها، كما يحدث في أية منظومة قانونية، مما يوهِم بأن ذلك سينطلي على الله. والصحيح أن الله تعالى يأخذ مثقال الذّرة بالاعتبار في الحساب فكيف بمدى أخلاقية الفعل؟ وأنّ من وظائف الدّين إلى جانب رسم الخطوط القانونية العامة تنمية حجم الضّمير لدى الإنسان ومخاطبة هذا الضمير ليميز التصرف الأخلاقي من اللاأخلاقي في كل حالة على حدة.


 

من لا يرى أن الإباحة الفقهية لا تجعل الفعل أخلاقيا بالضرورة فمن الصّعب إيجاد أرضيةٍ مشتركة للنقاش معه في الأمثلة السابقة وأخلاقيّتها في الحالات المختلفة. وكأنه يقول إنّ خلافه مع تنظيم داعش خلاف فقهيّ وحسب لأن الأخلاقية عنده هي بنت الرأي الفقهي مهما كان. أما من يستطيع تمييز الأخلاقية كأصلٍ مستقل فالنقاش معه يتركز في متى يكون الفعل أخلاقياً وحكيماً ومتى لا يكون ولماذا .. وعلى ذلك يتوقف الحكم والحساب، فإذا كان الفعل لاأخلاقياً في حالةٍ ما فلا يمكن أن يكون حينها مباحاً بلغة الإله أي ألّا يكون فيه إثم .. ولو كان مباحاً في فقه المعاملات ذي المنحى القانوني.

فما أكثر ما ذكر القرآن التقوى عند الحديث عن الزواج والطلاق، وما أكثر الآراء الفقهية القانونية التي تخيّل للإنسان أنه مخيّر في التقوى أو عدمها.

الفقه من أعظم علوم الدين وأهمّها، ولكن من المؤسف أن نرى الخطاب الفقهي اليوم يلقي معظم ثقله في إجابة سؤال الإباحة/الإتاحة أو عدمها فيعزّز هذا الإطار الفكري في الأذهان، ولا يولي سؤال الأخلاقيّة والتّقوى والاجتهاد في استخدام العقل -وهو مناط التكليف الإلهي أصلا- وحكمة التّصرف إلا القليل من الاهتمام ولا يدفع المرء للتفكير فيها وكأنها أمورٌ ثانوية أو ليست من الدين أو لا ينبني عليها حساب أخرويّ وثواب وعقاب وجنة ونار.


بقلم Mohammad Al Shoker (نقلًا عن صفحته بالفايسبوك)

اقرأ المزيد »

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: