وعلينا أن نولي هذا الأمر أهمية خاصة وندرسه بشجاعة وموضوعية بعيداً عن الصخب العاطفي أو التهويل الإعلامي لنتحرى عن الحقيقة ونتبينّ ما جرى فعلاً، فهل فعلاً حصلت هذه المجزرة التي تفاخرت بعض المصادر الإسلامية التاريخية بالحديث عنها؟ [...].
بين حكاية القرآن وحكاية المؤرخين!
ولعل أهم المفارقات التي تواجه الباحث هو أنّ حكاية القرآن الكريم لهذه الحادثة لا تنسجم كثيراً مع الرواية التاريخية لمجريات القضية، وهذا ما يثير الشك والريبة في مدى دقة الرواية التاريخية، فإنّ قضية بني قريظة قد سجّلها القرآن الكريم وتحدّث عنها في آيتين أوجزتا ما جرى، وذلك في سياق حديثه عما جرى في وقعة الأحزاب، والآيتان هما قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًاً} [الأحزاب 26- 27].
ونزول هاتين الآيتين في قضية بني قريظة أمر [...] معروف ومشهور لدى المفسرين والمؤرخين [2].
إنّ الآيتين الكريمتين المتقدمتين لم تتحدثا عن مجزرة وذبح بدم بارد تعرضت لها تلك الجماعة التي ظاهرت المشركين وناصرتهم، ولم تشرْ إلى نزولهم على حكم أحد، ومن ثمّ تعرضهم لعملية إبادة شاملة وحكم بإعدام كافة الذكور الذين نبت الشعر على عاناتهم، وسبي للأطفال والنساء.. وإنما تحدثت الآيتان عن نهاية لتلك الجماعة (بنو قريظة) وسيطرة المسلمين على أرضهم وأموالهم، أمّا مصيرهم - بحسب ما أشارت الآية الأولى - فلم يكن هو القتل العام والإبادة الشاملة بعد خضوعهم ونزولهم على حكم المسلمين، بل المستفاد من الآية الأولى أنّ قسماً منهم قد قتل، وقسماً آخر أسر، وهذه الآية وإن لم تحدد لنا طريقة القتل، وأنّه حصل أثناء المعركة أو أنه تمّت تصفيتهم بعد استسلامهم، لكن يمكن القول: إنّ مقابلة القتل للأسر توحي بأنّ الذين قتلوا لم يؤسروا، ما قد يرجح أنّهم قتلوا في معركة، ولو كان بنو قريظة كلهم قد نزلوا على حكم سعد، ومن ثمّ قتلوا بأجمعهم فلا معنى لهذا التقابل بين القتل والأسر في الآية.
بعبارة أخرى: يستفاد من الآية أنّ القتل حدث بالموازاة مع الأسر، لا أنّه متفرِع عليه، كما تنص الرواية التاريخية، وعليه، فلا يمنع من أن تكون هناك معركة معيّنة قد نشبت مع بني قريظة وأسفرت عن قتل بعضهم وأسر آخرين، ولا تشير الآية إلى ما جرى مع الأسرى.
أضف إلى ذلك أنّ الأسر لا يكون إلا نتيجة معركة، بينما الرواية المشهورة تتحدث عما يشبه استسلام لبني قريظة ونزولهم على حكم سعد. وهذا النزول وما أعقبه من سبي الأطفال والنساء لا يعدّ أسراً، قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال-67].
ربما يقال: إنّ الآية تشي بأنّ القتل والأسر حصل بعد إنزالهم عن صياصيهم، فيكون مؤيدا لحصول الاستسلام دون قتال ثم حصول القتل والأسر. ولكن الظاهر أنّ إنزالهم من صياصيهم هو كناية عن هزيمتهم وتقهقر قوتهم والمتمثل والمتحقق بالقتل والأسر.
هذا ما يمكن فهمه من القرآن الكريم، ومن الطبيعي أنّ الرواية القرآنية هي الأدق والأصح، ولا يمكننا أن نثق بما يخالفها. [...].
إشكالات [...]
[...] الرواية المتداولة تنسب إلى المسلمين أنّهم قتلوا كل ذكر بالغ سواء قاتل أو لم يقاتل، وسواء كان شاباً محارباً أو شيخاً كبيراً أو فتى صغيراً ولو في أوائل البلوغ، وكانوا يعرفون البلوغ من خلال إنبات الشعر [19]، وثمّة أسئلة ترد هنا من قبيل:
- أنه إذا كان هناك مبرر لقتل الشباب المقاتلين فما المبرر لقتل الشيوخ؟! (والشيوخ كانوا حتماً موجودين، فنحن عندما نتحدث عن جماعة يكاد عدد رجالها الذين قتلوا يلامس الألف طبقاً لبعض الروايات فهذا يعني أن هذه الجماعة كان فيها العشرات من الشيوخ والمسنين) والحال أنّ الحرب في الإسلام لها قوانينها الأخلاقية ومن هذه القوانين تجنب قتل الشيوخ، [...]، أيعفى عن الشيخ في المعركة الضروس بعد تحقق النصر، ويقتل صبراً في حال قبل النزول على حكم المسلمين دون معركة راجياً العفو ومتأملاً الصفح؟!
- ومن قبيل أنه هل كل أولئك الفتية الذين نبت الشعر على عاناتهم للتو مشاركين في الحرب ونقض العهد وخيانة المسلمين والغدر بهم؟! إنّ هذا أمر مستبعد للغاية، ففي العادة لا يكون هؤلاء الفتية الذين راهقوا البلوغ أصحاب رأي ولا لديهم بأجمعهم استعداد لخوض الحرب فضلاً عن أن يكون لهم دور في نقض العهود أو المساهمة والمشاركة في الغدر والخيانة، وإنما يفعل ذلك بعض كبرائهم وساداتهم [...]، وعليه، فليس ثمّة مبرر إلا لقتل من اشترك في الخيانة والعدوان ونقض العهود فقط، وأمّا البقيّة ومنهم الشيوخ والعجزة والفتية الصغار فلا مبرر لقتلهم؟ ألا يعدّ قتلهم حينئذٍ ظلماً ومنافًياً لقاعدة العدل القرآنية: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [النجم 38]؟! وفي الحدّ الأدنى ألا يعدّ ذلك منافياً لأخلاقيات النبي الكريم (ص) التي عرف بها، وهو المشهور بالعفو والصفح عمّن أساء وظلم؟!
- [...] ثمّ إنّ ثمة تساؤلاً يفرض نفسه في المقام، وهو أنّه إذا كان الذين قتلوا من بني قريظة هم بالمئات، فإنّ العدد الذي يفترض أن يكون السبايا والأسرى الذين استعبدوا عدداً كبيراً يزيد على هؤلاء فأين بيعوا وأين ذهبوا...!؟ قد لا نجد جواباً مقنعاً على ذلك ما يبعث على مزيد من التشكيك في الحادثة، ويؤشر إلى المبالغات التي اكتنفتها.
[السؤال الآخر الذي يراودني: هو ماذا حل بجثث هؤلاء والتي تعد بالمئات؟ كيف تخلص المسلمون من هذا العدد الكبير من الجثث؟ وهل تم دفنهم وأين تم دفنهم؟ وماذا يقول السجل الأحفوري في هذا الأمر؟]
-وربما شكك البعض بالحادثة، من زاوية ما روي عن قتل الأسرى، وهو أمر مستغرب ومرفوض، ولا يعقل إقدام النبي (ص) عليه، لأنّ القرآن الكريم وضع قاعدة في التعامل مع الأسرى وهي المنّ أو الفداء، قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد 4].
[...] الرأي الأقرب: قتل من حزّب منهم
ولكنّ الإنصاف يدفعنا إلى القول: إنّ الملاحظات المتقدمة [...] لا توجب تكذيب الحادثة من أصلها، وإنما تبعث على التشكيك في تفاصيل تلك الرواية المشهورة، وتدفع إلى ترجيح ما ذكره بعض المؤرخين من أن سعد بن معاذ إنّما حكم أن "يقتل من حزّب منهم عليه.." [25]، ولم يقتلهم جميعاً، والذين حزبوا هم - بحسب العادة - رؤوس القوم وذوي الرأي والبأس فيهم، وليس كل الرجال الذين قيل: إنّ عددهم بلغ تسعمائة وقيل أقل من ذلك، يقول ابن إسحاق إنّ عددهم بلغ "ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة" [26]، ويذكر بعضهم أنّ عددهم كان أربعمائة [27]، وإنّ هذا التضارب الكبير حول عددهم هو عنصر آخر يثير الريبة، ولا يتسنى لنا فهمه إلا على أساس المبالغة التي تحصل في مثل هذه الحالات، حيث إننا نلحظ ميلاً ورغبة -لدى المنتصرين- بتعظيم الإنجازات من خلال الإكثار من أعداد قتلى عدوّهم أو تضخيم بطولاتهم. وهذا ما يؤكده لنا تاريخ الحروب في الماضي والحاضر، فالمبالغات فيها معروفة [...].
ومما يشهد إلى أنّ عدد المقتولين لم يصل إلى المئات كما قيل، بل كان قليلاً ولعله لم يتجاوز المائة، أنّ رواية ابن إسحاق [29] تنصّ على أنّه بعد استسلام يهود بني قريظة ونزولهم على حكم سعد بن معاذ، أُخذوا وحُبسوا في دار بنت الحارث (وهي امرأة من بني النجّار)، وعليه [...] فهل يعقل أن تضمَ دار بنت الحارث هذا العدد الكبير من الرجال، ولا سيما بملاحظة بيوت ذلك الزمان؟! إنّ هذا أمر مستبعد للغاية.
حسين الخشن (بتصرف واختصار)
==
[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج 21ص ،181، وتفسير القمي ج 2 ص 189، والسيرة النبوية ج 2 ص 725، 726.
[19] قال ابن إسحاق:" وكان رسول الله (ص) قد أمر بقتل من أنبت منهم". أنظر: السيرة النبوية ج 2 ص 721.
[25] الوفا695، وتبناه بعض العلماء المعاصرين، انظر: الصحيح من السيرة ج 12 ص 88.
[26] السيرة النبوية ج 2 ص 719.
[27] سنن الترمذي ج 3 ص 72.
[29] السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 719.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قل خيرًا أو اصمت: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)