الأحد، 15 سبتمبر 2019

الأصل في المعاملات الإباحة

إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده. ولا أقول هنا ما قاله البعض من ضرورة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ففي الأحكام الفرعية العملية يكفينا النص الصحيح الصريح.

وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله. فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله، فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع. 

وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المُحّرّم، والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً.

ولعل ما يشهد لهذا أن بعض الصحابة ظلوا على شرب الخمر مع نزول قوله تعالى عن الخمر والميسر: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) سورة البقرة، وظل بعضهم يسألون الله أن يبين لهم في الخمر "بياناً شافياً".

فدلنا هذا أن "البيان الشافي" الذي لا مجال فيه لاحتمال هو الذي يفيد التحريم، ويقطع المعاذير.

ومن ثم كان كثير من أئمة السلف يقولون: أكره هذا الأمر، أو لا أراه، أو لا يعجبني، ونحوه، ولا يصرحون بالتحريم إلا فيما لا احتمال فيه.

وكيف لا وهم يقرءون قول الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)، [سورة يونس: 59].

وقوله سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [سورة النحل: 116].

إن كلمة "حرام" كلمة كبيرة خطيرة، لأن معناها أن الله يعاقب على هذا الفعل بالنار، وهذا لا يجرؤ عليه مسلم يخشى الله تعالى، إلا أن يكون معه مستند لا يقبل الشك. وإلا كان قولا على الله بغير علم.

ومن المقرر أن تحريم ما أحل الله لا يقل في الإثم عن إحلال ما حرم الله.
ومما ينبغى تأكيده هنا: أن الاتجاه التشريعي في القرآن والسنة هو الميل إلى تقليل المحرمات وتضييق دائرتها، تخفيفا على المكلفين، ولهذا كرهت كثرة الأسئلة في زمن الوحي لما قد يؤدي إليه من كثرة التكليفات، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [المائدةة: 101] [...]

القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، ص13-14

طالع أيضًا: 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: