إن من حق علماء العصر أن يجتهدوا فيما جد من أمور ليبينوا فيها موقف الاجتهاد الإسلامي المعاصر، ولا أقول: ليبينوا حكم الله تعالى فيها، كما يقول بعض إخواننا العلماء، لأننا لا نجرؤ على ادعاء أن هذا الرأي أو ذلك حكم الله تعالى، إلا فيما ورد به نص ثابت لا يقبل التأويل.
والقول بإغلاق باب الاجتهاد قول لا دليل عليه، ولا يعرف من قاله. ومهما يكن الأمر فقائله ليس من أهل الاجهاد حتى يعتبر قوله، إنما هو مقلد، والمقلِّد لا يقلَّد!
ومن ذا الذي يملك إقفال باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولقد ذهب من ذهب من علماء الأمة إلى أن الاجتهاد في كل عصر فرض، وأن كل عصر لا يخلو من مجتهد، وألف في ذلك الحافظ السيوطي رسالته "الرد على من أخلد إلى الأرض".
ومما يشهد لذلك الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره وصححه جماعة من العلماء: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل سنة من يجدد لها دينها" ولا معنى للتجديد إذا ظل سيف التقليد مصلتا، وباب الاجتهاد مغلقا!
ولو جاز لأحد إنكار الاجتهاد المطلق، مع أنه لا حرج على فضل الله تعالى، لم يجز قط إنكار الاجتهاد الجزئي، وهو الاجتهاد في بعض المسائل التي يتوفر العالم المتمكن على بحثها في مصادرها ومظانها حتى يكوّن رأيا مبنيا على علم ودراسة.
وليس من حق أحد أن يقول لعلماء العصر إذا اجتهدوا: دلونا على من قال بقولكم هذا فيمن سبقكم من العلماء، فليس من اللازم أن يكون لكل قول سلف من العلماء.
كما أن من حق علماء العصر أن يأخذوا ويدعوا من أقوال علماء الأئمة السابقين رضي الله عنهم، مع إجلالنا لهم جميعا، لأنهم غير معصومين.
ومن حقهم كذلك أن يخالفوا فتاوي السابقين في بعض القضايا القديمة الجديدة. وذلك لأنها كانت في زمنهم بأحجام غير حجمها اليوم، وأبعاد غير بعدها اليوم، وفي ظروف غير ظروفنا اليوم، ومن يدري لو أن هؤلاء الفقهاء كانوا أحياء، ورأوا ما رأينا، ليغروا من اجتهادهم، وعدلوا من فتاويهم، فقد قرروا: أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف.
ولقد كان للشافعي في زمن محدود مذهبان: قديم في العراق، وجديد في مصر، لأنه سمع مالم يكن قد سمع، ورأي ما لم يكن قد رأى.
ورأينا الصاحبين: أبا يوسف ومحمد يخالفان شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب كما قيل. لظهور أدلة لهما لم تظهر لصاحبهما، أو لتغير الظروف والأحوال، وهو ما يعلق عليه علماء المذهب بقولهم: إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان.
ورأينا مالكا وأحمد يروى عنهما في المسألة الواحدة عدة روايات، كما رأينا لأصحابهما أيضا عدة أقوال، ولمن بعدهم عدة اختيارات.
رأينا كل هذا التعدد والتجدد والتنوع والاختلاف في الآراء والأقوال للإمام الواحد في فترتين أو موقعين، وبين أئمة المذهب الواحد في زمن وجيز، وفي عصر ساكن قليل التغييرات، ولا يتسم بسرعة الحركة واتساعها كحركة عصرنا الذي يلد كل يوم جديدا.
فكيف نفترض في أنفسنا بعض مضي القرون أن يكون رأينا في المسائل نفس رأيهم، وموقفنا في المعاملات المتجددة نفس موقفهم؟ وتكييفنا لها نفس تكييفهم، وهم أنفسهم لم يلزمونا بذلك، ولا ألزمنا به الله ورسوله.
وإذا تقرر حق علماء العصر في الاجتهاد الإنشائي أو الترجيحي، فينبغى أن نقلق كثيرا إذا وجدنا أهل العلم يختلفون في بعض المسائل الجزئية من المعاملات ونحوها. فهذه طبيعة المسائل الاجتهادية: أن تتعدد في وجهات النظر، لكل وجهة، وكل معذور بل مأجور، وقد اختلف الصحابة في الفروع، فما ضرهم ذلك شيئا.
وأسباب اختلاف العلماء كثيرة، ألف فيها المؤلفون قديما وحديثا. بعضها يرجع إلى ثبوت النص أو عدمه، وبعضها يرجع إلى فهمه والاستنباط منه. واختلاف المدارس في ذلك، من مدرسة أهل الظاهر إلى مدرسة أهل الرأي وما بينهما. وبعضها يرجع إلى تغير الظروف واختلاف زوايا الرؤية، وبعضها يرجع إلى شخصيات المجتهدين واتجاهاتهم النفسية ما بين متشدد وميسر، ولهذا عرف تاريخ الفقه عندنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس.
على أن اختلاف الفقهاء في مسائل الفروع -وخصوصا في المعاملات- يعتبر توسعة للناس ورحمة بهم، من ناحية، وهذا معنى قول الناس: اختلافهم رحمه، وروي عن عمر بن عبد العزيز ما يؤيد هذا.
ومن ناحية أخرى يعتبر هذا التعدد والتنوع في الآراء والاجتهادات إثراء لفقه الشريعة، ودليلا على خصوبتها وسعتها ومرونتها، وقدرتها على مواجهة التطور، وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان وحال.
فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، ويقد يصلح لبيئة ولا يصلح لغيرها، وقد يصلح في أوضاع وأحوال معينة ولا يصلح في أحوال أخرى.
وهذا ما يجعل للفقيه المعاصر -في حالة الفتوى أو القضاء أو التقنين- سعة وحرية في اختيار الرأي الذي يراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، دون خروج على محكمات النصوص وقواطع الأصول.
القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية،ص19-22
ومما يشهد لذلك الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره وصححه جماعة من العلماء: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل سنة من يجدد لها دينها" ولا معنى للتجديد إذا ظل سيف التقليد مصلتا، وباب الاجتهاد مغلقا!
ولو جاز لأحد إنكار الاجتهاد المطلق، مع أنه لا حرج على فضل الله تعالى، لم يجز قط إنكار الاجتهاد الجزئي، وهو الاجتهاد في بعض المسائل التي يتوفر العالم المتمكن على بحثها في مصادرها ومظانها حتى يكوّن رأيا مبنيا على علم ودراسة.
وليس من حق أحد أن يقول لعلماء العصر إذا اجتهدوا: دلونا على من قال بقولكم هذا فيمن سبقكم من العلماء، فليس من اللازم أن يكون لكل قول سلف من العلماء.
كما أن من حق علماء العصر أن يأخذوا ويدعوا من أقوال علماء الأئمة السابقين رضي الله عنهم، مع إجلالنا لهم جميعا، لأنهم غير معصومين.
ومن حقهم كذلك أن يخالفوا فتاوي السابقين في بعض القضايا القديمة الجديدة. وذلك لأنها كانت في زمنهم بأحجام غير حجمها اليوم، وأبعاد غير بعدها اليوم، وفي ظروف غير ظروفنا اليوم، ومن يدري لو أن هؤلاء الفقهاء كانوا أحياء، ورأوا ما رأينا، ليغروا من اجتهادهم، وعدلوا من فتاويهم، فقد قرروا: أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف.
ولقد كان للشافعي في زمن محدود مذهبان: قديم في العراق، وجديد في مصر، لأنه سمع مالم يكن قد سمع، ورأي ما لم يكن قد رأى.
ورأينا الصاحبين: أبا يوسف ومحمد يخالفان شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب كما قيل. لظهور أدلة لهما لم تظهر لصاحبهما، أو لتغير الظروف والأحوال، وهو ما يعلق عليه علماء المذهب بقولهم: إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان.
ورأينا مالكا وأحمد يروى عنهما في المسألة الواحدة عدة روايات، كما رأينا لأصحابهما أيضا عدة أقوال، ولمن بعدهم عدة اختيارات.
رأينا كل هذا التعدد والتجدد والتنوع والاختلاف في الآراء والأقوال للإمام الواحد في فترتين أو موقعين، وبين أئمة المذهب الواحد في زمن وجيز، وفي عصر ساكن قليل التغييرات، ولا يتسم بسرعة الحركة واتساعها كحركة عصرنا الذي يلد كل يوم جديدا.
فكيف نفترض في أنفسنا بعض مضي القرون أن يكون رأينا في المسائل نفس رأيهم، وموقفنا في المعاملات المتجددة نفس موقفهم؟ وتكييفنا لها نفس تكييفهم، وهم أنفسهم لم يلزمونا بذلك، ولا ألزمنا به الله ورسوله.
وإذا تقرر حق علماء العصر في الاجتهاد الإنشائي أو الترجيحي، فينبغى أن نقلق كثيرا إذا وجدنا أهل العلم يختلفون في بعض المسائل الجزئية من المعاملات ونحوها. فهذه طبيعة المسائل الاجتهادية: أن تتعدد في وجهات النظر، لكل وجهة، وكل معذور بل مأجور، وقد اختلف الصحابة في الفروع، فما ضرهم ذلك شيئا.
وأسباب اختلاف العلماء كثيرة، ألف فيها المؤلفون قديما وحديثا. بعضها يرجع إلى ثبوت النص أو عدمه، وبعضها يرجع إلى فهمه والاستنباط منه. واختلاف المدارس في ذلك، من مدرسة أهل الظاهر إلى مدرسة أهل الرأي وما بينهما. وبعضها يرجع إلى تغير الظروف واختلاف زوايا الرؤية، وبعضها يرجع إلى شخصيات المجتهدين واتجاهاتهم النفسية ما بين متشدد وميسر، ولهذا عرف تاريخ الفقه عندنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس.
على أن اختلاف الفقهاء في مسائل الفروع -وخصوصا في المعاملات- يعتبر توسعة للناس ورحمة بهم، من ناحية، وهذا معنى قول الناس: اختلافهم رحمه، وروي عن عمر بن عبد العزيز ما يؤيد هذا.
ومن ناحية أخرى يعتبر هذا التعدد والتنوع في الآراء والاجتهادات إثراء لفقه الشريعة، ودليلا على خصوبتها وسعتها ومرونتها، وقدرتها على مواجهة التطور، وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان وحال.
فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، ويقد يصلح لبيئة ولا يصلح لغيرها، وقد يصلح في أوضاع وأحوال معينة ولا يصلح في أحوال أخرى.
وهذا ما يجعل للفقيه المعاصر -في حالة الفتوى أو القضاء أو التقنين- سعة وحرية في اختيار الرأي الذي يراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، دون خروج على محكمات النصوص وقواطع الأصول.
القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية،ص19-22
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق