ومن أسباب الخلط والزلل في فهم السنَّة: أنّ بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنَّة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنيّة والبيئة التي تعينها أحياناً للوصول إلى الهدف المنشود، فتراهم يركّزون كلّ التركيز على هذه الوسائل، كأنّما مقصوده لذاتها، مع أنّ الذي يتعمق في فهم السنَّة وأسرارها، يتبيّن له أن المهمّ هو الهدف، وهو الثابت والدائم، والوسائل قد تتغيّر بتغيّر البيئة أو العصر أو العرف، أو غير ذلك من المؤثّرات.
ومن هنا تجد اهتمام كثير من الدارسين للسنّة، المهتمّين بالطبّ النبوي يركّزون بحثهم واهتمامهم على الأدوية والأغذية والأعشاب والحبوب، وغيرها ممّا وصفه النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للتداوي به في علاج بعض العلل والأمراض البدنيّة.
ومن ثمّ يذكرون الأحاديث المعروفة هنا مثل: - «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ» (1). - «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ، وَالقُسْطُ البَحْرِيُّ».(2)
«عَلَيْكُمْ بِهَذَا العُودِ الهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِية .. » (3). - «عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ»، وَالسَّامُ المَوْتُ (4). - وَ «فِي الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلاَّ السَّامَ» (أي الموت) (5). - «اكْتَحِلُوا بِالإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو البَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» (6).
ورأيي أنّ هذه الوصفات وما شابهها ليست هي روح الطبّ النبويّ، بل روحه المحافظة على صحّة الإنسان وحياته، وسلامة جسمه، وقوّته، وحقّه في الراحة إذا تعب، وفي الشبع إذا جاع، وفي التداوي إذا مرض، وأنّ التدواي لا ينافي الإيمان بالقدر، ولا التوكّل على الله تعالى، وأنّ لكل داء دواء، وإقرار سنّة الله في العدوى، وشرعيّة الحَجْرِ الصِّحِيِّ، والعناية بنظافة الإنسان والبيت والطريق..
ومنع تلويث المياه والأرض، والاهتمام بالوقاية قبل العلاج، وتحريم كلّ ما يضر تناوله بالإنسان من مسكر أو مفتر، أو أي غذاء ضارّ، أو مشرب ملوّث، وتحريم إرهاق الجسم الإنسانيّ ولو في عبادة الله تعالى، وتشريع الرخص حفظاً للأبدان، والمحافظة على الصحّة النفسيّة بجوار الصحّة الجسديّة، إلى غير ذلك من التوجيهات التي تمثّل حقيقة الطبّ النبويّ الصالح لكلّ زمان ومكان.
إنّ الوسائل قد تتغيّر من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، بل هي لا بدّ متغيّرة، فإذا نصّ الحديث على شيء منها، فإنّما ذلك لبيان الواقع، لا ليقيّدنا بها، ويجمّدنا عندها؛ بل نصّ القرآن نفسه على وسيلة مناسبة لمكان معيّن وزمان معيّن، فلا يعني ذلك أن نقف عندها، ولا نفكّر في غيرها من الوسائل المتطوّرة بتطوّر الزمان والمكان.
ألم يقل القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفال: 60]. ومع هذا لم يفهم أحد أنّ المرابطة في وجه الأعداء لا تكون إلا بالخيل التي نصّ القرآن عليها، بل فهم كلّ من له عقل يعرف اللغة والشرع: أنّ خيل العصر هي الدبابات والمدرّعات ونحوها من أسلحة العصر.
وما ورد في فضل احتباس الخيل، وعظيم الأجر فيه، مثل حديث «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ» (7). ينبغي أن يطبّق على كلّ وسيلة تستحدث، وتقوم مقام الخيل، أو تتفوّق عليها بأضعاف مضاعفة، ومثل ذلك ما جاء في فضل «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا» (8) .. فهو ينطبق على الرمي بالسهم أو البندقيّة أو المدفع أو الصاروخ أو أيّ وسيلة أخرى يخبّئها ضمير الغيب.
وأعتقد أنّ تعيين السواك لتطهير الأسنان من هذا الباب، فالهدف هو طهارة الفم، حتّى يرضى الربّ، كما في الحديث «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» (9). ولكن هل السواك مقصود لذاته، أم كان هو الوسيلة الملائمة الميسورة في جزيرة العرب؟ فوصف لهم النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يؤدي الغرض ولا يعسر عليهم، ولا بأس أن تتغيّر هذه الوسيلة في مجتمعات أخرى، ولا يتيسّر لها هذا العود، إلى وسيلة يمكن تصنيعها بوفرة تكفي مئات الملايين من الناس، مثل (الفرشاة).
وقد نصّ بعض الفقهاء على نحو ذلك، قال في " هداية الراغب " في الفقه الحنبليّ: «ويكون العود من أراك وعرجون وزيتون، وغيرها، لا يجرح ولا يضرّ ولا يتفتّت. ويكره بما يجرح أو يضر أو يتفتت. والذي يضر كالرمان والريحان والطرفاء ونحوها .. ولا يصيب السُّنَّة من استاك بغير عود»، ونقل مهذّب الكتاب الشيخ عبد الله البسام عن النوويّ قوله: «بِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَاكَ مِمَّا يُزِيلُ التَّغَيُّرَ حَصُلَ الاِسْتِيَاكُ، كَالخِرْقَةِ وَالإِصْبُعِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ». وفي " المغني ": «أَنَّهُ يُصِيبُ مِنَ السُّنَّةِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الإِنْقَاءِ، وَلاَ يُتْرَكُ القَلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْ كَثِيرِهَا» وَذَكَرَ أَنَّهُ الصَّحِيحُ (10).
وبهذا نعلم أنّ (الفرشاة) والمعجون يمكن أن يقوما مقام الأراك في عصرنا، وخصوصاً في البيت، وبعد الأكل وعند النوم، ويدخل في ذلك ما جاء من الأحاديث المتعلّقة بأدب المائدة في فضيلة (لعق الصحفة) والأصابع ونحوها.
وقد ذكر النوويّ في " رياض الصالحين " جملة منها. من ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ [يَدَهُ] حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» (11).
وروى مسلم عن كعب بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» (12). وروى أيضاً عن جابر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَةُ» (13). وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَاماً لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاَثَ، قَالَ: وَقَالَ: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ»، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ القَصْعَةَ (أي نمسحها)، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» (14).
إنّ الذي ينظر إلى لفظ هذه الأحاديث فقط لا يفهم منها إلا الأكل بالأصابع الثلاث، ولعقها بعد الأكل، ولعق القصعة أو سلتها ومسحها، سنّة نبويّة، وربّما نظر إلى من يأكل بالملعقة نظرة اشمئزاز، وإنكار، لأنّه في رأيه مخالف للسنّة متشبّه بالكفّار!
والحقّ أنّ روح السنّة الذي يؤخذ من هذه الأحاديث هو تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقديره لنعمة الله تعالى في الطعام، والحرص على ألا يضيع منه شيء هدراً بغير منفعة، كبقايا الطعام التي تترك في القصعة أو اللقم التي تسقط من بعض الناس، فيستكبر عن التقاطها، إِظْهَاراً لِلْغِنَى وَالسَّعَةِ، وَبُعْداً عن مشابهة أهل الفقر والعوز، الذين يحرصون على الشيء الصغير، ولو كان لقمة من خبز.
ولكنّ الرسول الكريم يعتبر اللقمة إذا تركت إنّما تترك للشيطان. إنّها تربية نفسيّة، وأخلاقيّة، واقتصاديّة، في الوقت نفسه، لو عمل بها المسلمون ما رأينا الفضلات التي تلقى كلّ يوم ـ بل كلّ وجبة ـ في سلة المهملات، وأوعية القمامة، ولو حسبت على مستوى الأمّة المسلمة لقدّرت قيمتها الاقتصاديّة كلّ يوم بالملايين، فكيف بها في شهر أو سنة كاملة؟.
هذه هي الروح الكامنة وراء هذه الأحاديث، وربّ امرئ يجلس على الأرض ويأكل بأصابعه، ويلعقها ـ اتّباعاً للفظ السنّة ـ ولكنّه بعيد عن خلق التواضع، وخلق الشكر، وخلق الاقتصاد في استخدام النعمة، التي هي الغاية المرتجاة من وراء هذا الآداب.
ومن عجيب ما سمعته ما ذكره لي بعض العلماء: أنّه زار بعض البلاد في آسيا الإسلاميّة، فوجد في دورات المياه عندهم أحجار صغيرة مكدّسة في جوانبها، فسألهم عن سرّها، فقالوا: إننا نستجمر ـ نستنجى ـ بها، إحياء للسنّة!. وكان على هؤلاء أن يفرشوا مساجدهم بالحصباء اتباعاً للسنّة، وأن يدعوها بلا أبواب محكمة، تغدو الكلاب فيها وتروح، اتّباعاً للسنّة، وأن يسقفوها بجريد النخل، ويضيئوها بمصابيح الزيت اتباعاً للسنّة! ولكن مساجدهم مزخرفة، مفروشة بالسجاجيد، مضاءة بثريّات الكهرباء!
بقلم يوسف القرضاوي (مصدر المقال)
هوامش المقال:
(1) رواه أحمد والطبرانيّ والحاكم وصححه عَنْ سَمُرَةَ وذكره في " صحيح الجامع الصغير ".
(2) رواه أحمد والنسائي عن أنس وذكره في " صحيح الجامع الصغير ".
(3) رواه البخاريّ عن أم قيس كما في " صحيح الجامع الصغير ".
(4) رواه ابن ماجه عن ابن عمر، والترمذيّ وابن حبّان عن أبي هريرة وأحمد عن عائشة، كما في " صحيح الجامع الصغير ".
(5) متّفق عليه كما في " اللؤلؤ والمرجان " (1430).
(6) رواه الترمذيّ عن ابن عبّاس، وقال: «حَسَنٌ غَرِيبٌ» (1757).
(7) رواه أحمد والشيخان والترمذيّ والنسائي عن عروة البارقي، وأحمد ومسلم والنسائي عن جرير. " صحيح الجامع الصغير ": (3353).
(8) انظر الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني والحاكم عن عمرو بن عبسة، والحديث الآخر الذي رواه الترمذيّ والنسائي والحاكم عن أبي نجيح في " صحيح الجامع الصغير ": (6267 و 6268).
(9) رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي وأحمد والنسائي والدارمي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والبيهقي عن عائشة، وابن ماجه عن أبي أمامة، والبخاريّ في " التاريخ "، والطبراني في " الأوسط " عن ابن عبّاس (" صحيح الجامع الصغير ": (3695))
(10) انظر " نيل المآرب " للشيخ عبد الله البسام: ج 1 ص 40.
(11) متفق عليه كما في " اللؤلؤ والمرجان "، حديث (1320).
(12) رواه مسلم برقم (2032).
(13) رواه مسلم برقم (2033).
(14) رواه مسلم برقم (2034).
(2) رواه أحمد والنسائي عن أنس وذكره في " صحيح الجامع الصغير ".
(3) رواه البخاريّ عن أم قيس كما في " صحيح الجامع الصغير ".
(4) رواه ابن ماجه عن ابن عمر، والترمذيّ وابن حبّان عن أبي هريرة وأحمد عن عائشة، كما في " صحيح الجامع الصغير ".
(5) متّفق عليه كما في " اللؤلؤ والمرجان " (1430).
(6) رواه الترمذيّ عن ابن عبّاس، وقال: «حَسَنٌ غَرِيبٌ» (1757).
(7) رواه أحمد والشيخان والترمذيّ والنسائي عن عروة البارقي، وأحمد ومسلم والنسائي عن جرير. " صحيح الجامع الصغير ": (3353).
(8) انظر الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني والحاكم عن عمرو بن عبسة، والحديث الآخر الذي رواه الترمذيّ والنسائي والحاكم عن أبي نجيح في " صحيح الجامع الصغير ": (6267 و 6268).
(9) رواه أحمد عن أبي بكر والشافعي وأحمد والنسائي والدارمي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والبيهقي عن عائشة، وابن ماجه عن أبي أمامة، والبخاريّ في " التاريخ "، والطبراني في " الأوسط " عن ابن عبّاس (" صحيح الجامع الصغير ": (3695))
(10) انظر " نيل المآرب " للشيخ عبد الله البسام: ج 1 ص 40.
(11) متفق عليه كما في " اللؤلؤ والمرجان "، حديث (1320).
(12) رواه مسلم برقم (2032).
(13) رواه مسلم برقم (2033).
(14) رواه مسلم برقم (2034).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق