السبت، 6 يونيو 2020

من خُلق أولًا السماء أم الأرض حسب القرآن الكريم؟

جاء في القرآن الكريم آيات يشير ظاهرها إلى أن الأرض خلقت قبل السموات، ومن هذه الآيات [...] قوله تعالى في سورة البقرة: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". ومنها قوله تعالى في سورة فصلت: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [...]". وجاءت فيه آيات أخرى يشير ظاهرها إلى عكس هذا، وهو أن السموات خلقت قبل الأرض، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة النازعات بعد ذكر بناء السماء: "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا" والمفسرون -جريًا على ما اعتادوا من محاولة أخذ كل شيء من القرآن، أو على اعتقاد أن القرآن يدل على كل شيء "تشريعي أو كوني"- نظروا في هذه الآيات من ناحية دلالتها على تاريخ الخلق بين السموات والأرض أيهما خلق قبل الآخر؟ ولما لم يكن في شيء من هذه الآيات كلها دلالة قطعية على أحد الأمرين، اختلفوا في الفهم والرأي، فذهب بعضهم إلى تقدم خلق الأرض مستدلين بآيتي البقرة وفصلت، إذ ذكرت فيهما تسوية السماء سبعًا بعد خلق الأرض بكلمة "ثم" الدالة على تأخر زمن ما بعدها عن زمن ما قبلها. وذهب آخرون إلى تقدم خلق السموات، مستدلين بآية النازعات إذ ذكر فيها بعد بناء السماء دحو الأرض بكلمة "بعد" وهي ظاهرة في التأخر الزمني، ولم يترك أحد الفريقين استدلال الآخر دون أن يناقشه ويرد عليه، فتبادلوا الرد والمناقشة، ثم الرد والمناقشة، وهكذا تركت المسألة في كتب التفسير دون أن يجد الناظر فيها ما يطمئنه على اعتقاد أحد الرأيين.

خلق السموات والأرض للنظر والاستدلال على قدرة الله:

والحق الذي نؤمن به أن القرآن لم يعرض لخلق السموات والأرض وما أودع فيهما إلا تنبيها للعقول على النظر فيهما، والاستدلال بهما على قدرة الله، وعموم علمه وتمام حكمته، ومنابع نعمه ورحمته، وأنه لم يكن من مهمته شرح حقائق الكون، ولا بيان تاريخ الخلق بين السموات والأرض، وإنما مهتمه توجيه الإنسان إلى أدلة الإيمان الواضحة، وإلى أن يحاول المعرفة لما وراء ظواهر الكون بما يتاح له من طرق البحث، قيامًا بحق إنسانيته العاقلة المفكرة.

الوقوف عند حدود ما صرح به القرآن:

نعم. إن ما جاء في القآن من ذلك صريحا يجب الوقوف في الإيمان به عند ما صرح به القرآن، وذلك مثل أن الكون كا شيئا واحدا ثم فصل الله بالخلق والتقدير، وهم من صريح قوله تعالة في سورة الأنبياء: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ". أما البحث وراء ذلك: من كيفية الفتق وعوامله وتاريخه وتاريخ أجزائه، ووضع كل جزء في مكانه مما لم يدل عليه نص قرآني صريح، فهو من مهمة البحث العقلي الذي وكل إلى الإنسان. ولا ينبغى التماس حقيقته من ظواهر القرآن التي سيقت للاستدلال بها على قوة الله، ولفتح أبواب البحث والمعرفة أمام الناس، ومن هذا تقدم خلق الأرض على السموات أو العكس وإذن. فعلى من يريد ذلك أن يلتمسه من بحوث العقل البشري، فيأخذ على ما قام عليه الدليل لا بما يحكيه القصاصون والإسرائيليون.


محمود شلتوت من كتاب "الفتاوى: دراسة لمشكلات المسلم المعاصر في حياته اليومية العامة" من ص424 إلى ص426.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: