آراء العلماء في الإجماع:
[...] لا أكاد أعرف شيئًا اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام، ثم تناولته الآراء واختلفت فيه المذاهب من جميع جهاته، كهذا الأصل الذي يسمونه "الإجماع" فقد اختلفوا في حقيقته: منهم من رأى أنه "اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي"، ومنهم من رأى أنه "اتفاق أكثر المجتهدين فحسب" ومنهم من ذهب "إلى أنه اتفاق طائفة معينة فلا يعد اتفاق غيرها إجماعًا".
ثم اختلف هؤلاء في هذه الطائفة من هي؟ فقيل (الصحابة) وقيل (أهل المدينة) وقيل (أهل البيت) وقيل (الشيخان: أبو بكر وعمر) وقيل (الأئمة الأربعة) إلخ.
واختلف الذين قالوا بالجميع: هل الإجماع بهذا المعنى ممكن متصور الوقوع، أو هو غير ممكن لأن الاجتهاد ليس له مقياس بارز متفق عليه بين العلماء، ولأن المجتهدين غير محصورين في بلد واحد أو إقليم واحد؟
واختلف الذي قالوا بإمكانه وتصور وقوعه: هل يمكن معرفته والاطلاع عليه أولا؟ وممن روى عنه المنع الإمام أحمد رضي الله عنه إذ يقول في إحدى روايتين عنه: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب.
واختلف الذي قالوا بإمكان معرفته والاطلاع عليه: هل هو حجة شرعية فيجب العمل به على كل مسلم أو ليس حجة شرعية فلا يجب العمل به؟.
واختلف الذي قالوا إنه حجة شرعية: هل ثبتت حجته بدليل قطعي يكفر منكره، أو بدليل ظني فلا يكفر؟ وهل يشترط في وجوب العمل به أن ينقل إلينا بالتواتر أو يكفي أن ينقل ولو بالآحاد؟ وهل يشترط أن يبلغ المجمعون عدد التواتر أو لا يشترط؟ وهل يشترط أن يصرح الجميع بالحكم مشافهة أو كتابة، أو لا يشترط فيكفي تصريح بعضهم وسماع الباقين مع سكوتهم؟... إلخ.
وكما اختلفوا في حقيقته وحجيته اختلفوا فيما يكون فيه من أحكام: فقال قوم: إنه حجة في العلميات والعمليات جميعًا، وقال غيرهم: إنه حجة في العمليات فقط. ومن ذلك كله يتبين أن حجية الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلا عن أن يكون الحكم الذي يثبت به معلومًا بدليل قطعي فيكفر منكره.
شيوع حكاية الإجماع في المسائل الخلافية:
ولعل اختلاف العلماء في الإجماع على هذا النحو يفسر لنا ظاهرة منتشرة في كتب القوم وهي حكاية الإجماع في كثير من المسائل التي ثبت أنها محل خلاف بين العلماء، وذلك من جهة أن كل من حكى الإجماع في مسألة هي محل خلاف قد بنى حكايته على ما يفهمه هو أو يفهمه إمامه أو الطائفة التي ينتمي إليها في معنى الإجماع وما يكفي لتحققه.
وعلى الرغم من ظهور السبب في تلك الظاهرة فقد تأثر بها كثير من المتأخرين فخضعوا لها، وتوسعوا فيها تأييدًا لآرائهم في المسائل الخلافية: فتجدهم في علم الفروع يحكمون الإجماع على إلزام الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وعلى تحريم لحم الخيل، وعلى حل أكل الضب، وغير ذلك. وتجدهم في علم أصول الأحكام يحكون الإجماع على العمل بخبر الواحد، وعلى تقديم الإجماع على النص عند التعارض، وعلى العمل بالقياس. وتجدهم في علم الكلام يحكون الإجماع على رؤية الله بالأبصار، وعلى ظهور المهدي، والدجال، ونزول عيسى، وما إلى ذلك من المسائل العلمية والعملية التي ثبت فيها الخلاف، ولم تكن محل قطع وإجماع.
وقد كان في وسعهم أن يقيدوا ذلك الإجماع الطائفي أو المذهبي، ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس: من مخالفة سبيل المؤمنين، ومشاقة الله ورسوله، وخرق اتفاق الأمة، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ويخشى أن يعرف به عند العامة. وكثيرًا ما تراهم يردفون حكايتهم للإجماع بقولهم (ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج) أو (بمخالفة المعتزلة والجهمية) ونحو ذلك مما يخيفون به، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ظنًا بسمعتهم الدينية، فوقف العلم، وحرمت العقول لذة البحث، وحيل بين الأمة وما ينفعها في حياتها العملية والعلمية.
[...]
الإجماع عند المحققين:
وقد كشف جهابذة العلماء عن حقيقة الإجماع التي تسمو عن الخلاف والتي هي حجة ملزمة عند الجميع؛ قال الشافعي: "ولست أقول، ولا واحد من أهل العلم: هذا مجمع عليه، إلا لما لا تلقى عالمًا أبدًا إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر وما أشبه هذا). وقال ابن حزم: (وصفة الإجماع هو ما تُيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهرًا طويلا ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت موقعة صفين والحرة وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة).
ولا يخفى أن معنى ما ذكره الشافعي وابن حزم أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر الذي يفيد قطعية الورود وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتم به الحجة ولا يصح أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملا بالإجماع من حيث هو إجماع؛ وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة، مما لا شبهة في ثبوته من صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثرًا من آثار الثبوت على هذا الوجه، فلا يكون مصدرًا له ولا أصلا في ثبوته.
ومن هنا قرر العلماء أن منكر حجية الإجماع لا يكفر، في حين أنهم حكموا بالكفر على من أنكر المجمع عليه.
هذا وقد رأى بعض الباحثين أن الإجماع الذي كان يرجع إليه، ويجري على الألسنة في الصدر الأول حيث لا نص هو إجماع بمعنى آخر غير هذا الإجماع الذي اصطلح عليه الأصوليون واشتهر بين الناس أنه حجة شرعية، واعتمدت عليه عصور التقليد في سد باب الاجتهاد، وعصور التعصب في الرمي بالتضليل والتفسيق والخروج عن سبيل المؤمنين.
***
نعود بعد هذا فنقول: إن الذي ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به سوى الأحكام الشرعية العملية، أما الحسيات المستقلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا: (إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمهما، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ القطعية والظنية في الورود والدلالة، [...].
الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ محمود شلتوت، ص66-70