كشف مغالطات اللادينين في طريقة نقدهم للإسلام (1)
المغالطة الأولى: الحكم المتهافت بادعاء وجود الأخطاء أو التناقضات
الكثير من الشبهات حول القرآن الكريم تكون متكلفة ومصطنعة اصطناعا غريبا، فبعض الشبهات مثلا تطلق دعاوى ساذجة بوجود تناقضات في القرآن لا يغفل عنها طفل فضلا عن أي عاقل، إذ عدم اجتماع النقيضين قضية بدهية متفق عليها عند كافة العقلاء، فالأحمر -حتى عند الطفل- لا يكون أصفر بذات الوقت ولا العكس. وحتى على افتراض أن القرآن من عند محمد أو أي شخص آخر فلن تتواجد هذه التناقضات المدعاة!
مثال: شبهة أن الله ذكر أن عدد الملائكة التي نزلت للقتال مع المؤمنين هو ألفا في موضع وثلاثة آلاف في موضع آخر:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (اﻷنفال 9)
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (آل عمران 124)
وشبهتهم أن القرآن يناقض نفسه هنا.
والمعنى الصحيح ليس له علاقة بالتناقض وهو أنه بعد استغاثة المسلمين كان هناك إمداد بألف من الله، وعدد الملائكة هو ثلاثة آلاف كما أشارت آية آل عمران، ولكنهم نزلوا مترادفين ألفا بعد ألف كما أشارت الأنفال. والتفصيل أكثر في كتب التفسير، على سبيل المثال كتاب الأساس في التفسير لسعيد حوا.
ومع أنه لا تعارض أصلا فلنتنزل في الخطاب ونفترض أن التعارض موجود حقا، فبالله عليكم، كيف يكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف ويكونون ألفا بذات الوقت؟ أيغفل عن هذه طفل؟ أي عاقل إن لم يسعفه الفهم فسيحدث نفسه أن لعل كل آية تتحدث عن معركة غير الأخرى وخصوصا أن الآيات لم تصرح باسم المعركة، أو عل الملائكة كانوا ألفا ثم أمدهم الله بآخرين، أو غير ذلك. أما افتراض أن الكاتب لا يميز هذا التناقض وأنه ناقض نفسه فجعل الألف ثلاثة آلاف فهذا لا يصح بحق أي كاتب عادي.
ولو أن شخصا أتاني فقال: رأيت شاةً بيضاء، ثم بعد أسبوع أتاني وقال: رأيت شاة سوداء. فأنا لا أقول: هذا الشخص غير عاقل، فكيف تكون الشاة بيضاء مرة وسوداء مرة؟ بل ببساطة سأعلم أن هناك ما أجهله فإما أنه رأى شاتين إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، أو غير ذلك من التحليلات، إذ حتى على افتراض كذب الشخص فهو لن يكون بهذا الغباء ليكذب كذبات مفضوحات ويناقض نفسه بهذه السذاجة!
وأيضا أدرج شبهة أخرى بذات السذاجة تقول: أن القرآن يقول تارة أنه خلق الأرض قبل السماء وبآية أخرى يناقض نفسه فيقول أن السماء خلقت أولا:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة 29)
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا) (النازعات 30)
والرد باختصار أن "ثم" و "بعد" المستخدمتان في الآيات، لغويا لا تأتيان دوما للترتيب الزمني كما ادّعوا وإنما تأتيان للترتيب الرتبي أيضاً، أي لا يستلزم وجودهما ترتيب حدوث الأشياء وراء بعضهما، وهاته أمثلة من القرآن: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (اﻷنعام 153 – 154). مع أن إتيان الله الكتاب لموسى جاء قبل أن يوصينا باتباع الصراط، ولكنه قال: (ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ). أي أن "ثم" هنا للتراخي الرتبي لا الزمني.
ومثال آخر: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) (القلم 13)، وهنا "بعد" ليست زمنية بل للتراخي الرتبي وتعني هنا أنه علاوة على ما ذكر من أوصافه من أنه هماز مشاء بنميم فهو علاوة على ذلك عتل سيء زنيم.
وليس هنا مكان استرسال لشرح لهذه القضية اللغوية فلتراجع كتب اللغة والتفسير أيضاً كتفسير ابن عاشور. ورغم خطأ ادعائهم ولكني أسأل: هل فعلا أي شخص عاقل سيرتكب مثل هذا اللغط معاكساً نفسه؟ وإن سقطت منه سهوا فلم لا يتدارك الأمر مصححا؟ وكيف تكون الأرض خلقت قبل السماء وبذات الوقت السماء خلقت قبل الأرض؟ بالتأكيد الموقف الأسلم هو وجود تحليل ما -حتى بحال لم نعرفه فهو موجود- وخصوصا إن كنا أمام كتاب ليس بتلك السذاجة لتفوته مثل هذه الأشياء.
والعجيب أن الملحدين إن وجدوا في القرآن إبهارا يتعارض مع أمية العرب يدعون أنه نابع من ذكاء رسول الله وفراسته وأنه درس ونقل عن غيره من الحضارات والأمم! فإن كان هذا حال الرسول من الفطنة كما يقولون فكيف يعارضون أنفسهم بمثل هذه التناقضات التي لا تفوت الغبي فضلا عن الفطن؟!
ثم على افتراض نسيان النبي وغفلته فاتته، فلم لم يراجع نفسه طوال بعثته؟ أو يراجعه أصحابه؟ وخصوصاً أن أنصار النبي كانوا يُقتلون لأجله وفداه، فلم لم يكن واحد منهم فطنا ينبه الرسول أنه ناقض نفسه وليتدارك خطأه قبل أن يفتضح أمره أمام أعدائه المتربصين لأخطائه؟ أو فلينبه الرسول من يشاركه التآمر -إن افترضنا تآمره-!
يقول الدكتور -الفاضل- أحمد السيد -في كتابه سابغات ص136- معلقا على ادعاء وقوع التناقض في الآيتين التاليتين: (...وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) (النساء 78 – 79)، والشبهة أن كيف تكون الحسنة والسيئة من عند الله في الآية الأولى ثم تكون السيئة من أنفسنا في الآية الثانية؟
يقول: "ويرى الطاعنون أن هذا تناقض ظاهر، ولعمر الله لو كان في هذا الكتاب الفصيح المبين تناقضا -وحاشاه- لما وقع في آيتين متتاليتين! فمن السذاجة والتفكير السطحي التفوه بهذه الدعوى!" انتهى كلامه حفظه الله.
والمعنى باختصار شديد أن ما أصاب الناس من خير فهو فضل الله والسوء بسبب أفعالهم وإن كان كله بتقدير الله ومن أراد الاستزادة في الرد على هذه الشبهة فليراجع رد الشيخ أحمد السيد في الكتاب (سابغات 136) وغيره.
ويندرج تحت هذا الادعاء أن القرآن فيه أخطاء لغوية! وليت شعري! ما أقول؟ أأطرش يتجسس ويتنصت سميعا أم أعمى يرقب بصيرا؟ أأعجمي يصحح لعربي؟ ووالله إنها شبهة مضحكة ومتكلفة، فأنا لم أعرف شخصا يُخطئ أثناء الحديث بلغته الأم فكيف يخطئ العربي في لغته التي يتحدث بها؟ وبحسب علماء اللغة، فاللغة العربية بقيت سليمة لا يخطئ العوام بها سواء في كلامهم أو شعرهم إلى سنة 150 هجرية في الحضر، وفي البادية بقيت اللغة سليمة إلى سنة 250 هجرية، وبقيت اللغة التي يتحدث بها العوام (1). والرسول صلى الله عليه وسلم كانت لغته العربية سليقة، وإنما يخطئ من تعلم اللغة تعلما، وكما قيل: حتى لو كان القرآن من عند أبي جهل لما وجدت فيه أخطاء لغوية (2). والخلاصة أن هذه الأخطاء المدعاة فيها من السذاجة ما يجعلها تنهار تلقائيا من ذاتها.
مراجع
(1) انظر: بسام جرار https://www.videoder.net/watch?v=qmbE0keLLhg
(2) راجع المقال التالي ففيه تفصيل أكثر: https://bit.ly/2OM5XAe
فاطمة الداعور -رحمها الله-
لقراءة البحث كاملًا: اضغط هنا
ملاحظة: هذا البحث الذي بين أيديكم هو آخر نسخة له وصلتني من فاطمة رحمها الله، وأذكر أني أجريت بعض التعديلات الطفيفة عليه وأرسلته لها، وأعتقد أنها قرأت تعديلاتي ووافقت عليها، لكني لا أذكر جيّدًا فقد مرّ وقتٌ طويل وقد تخونني الذاكرة فسجلت هذه الملاحظة هنا للأمانة، فقد وافتها المنية ولا أستطيع أن أعود لها فأسألها، مع العلم أننا كنا ننوي نشر هذا البحث بصفحة عالم الأكاذيب في حياتها وباسمها وهي على علم بذلك، لكن النشر تأجل وها أنا أنشره الآن بعد رحيلها ليستفيد منه الآخرون ويبقى لها صدقة جارية بإذن الله.
طالع أيضًا:
هل توجد أخطاء لغوية في القرآن الكريم؟
جميع المغالطات:
مغالطات اللادينين 1: الحكم المتهافت بادعاء وجود الأخطاء أو التناقضات
مغالطات اللادينين 2: الاحتجاج بتفاسير خاطئة أو ظنية ومحاكمة الإسلام لها بدلًا من نص الآيات
مغالطات اللادينين 3: التخبط في كثير من اعتراضات المعترضين
مغالطات اللادينيين 4: الجهل بالمنهجية والمصدر المعرفي الـمُتحاكم إليه
مغالطات اللادينيين 5: مغالطة القفز الحكمي
مغالطات اللادينيين 6: نفي القضايا الكلية الكبرى بقضايا جزئية صغرى
مغالطات اللادينيين 7: مغالطة التعارض بين السبب الطبيعي والغيبي
مغالطات اللادينيين 8: النظرة السوداوية والكئيبة أو النظرة المادية الصرفة الخالية من أي معنى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق