المغالطة الرابعة: الجهل بالمنهجية والمصدر المعرفي المتحاكم إليه
صحيح أن رسالة الإسلام تتضمن الدعوة إلى رقي الإنسان وازدهاره على جميع الأصعدة، ولكن بشكل عام حين نزل القرآن لم يكن يهدف تحديدا إلى أن نستخرج منه كل العلوم البشرية وأخص العلوم التجريبية -لانتشارها حاليا وتطاير الشبهات حولها- ولم يرشدنا القرآن أن ننهض بالعلم التجريبي من خلال دراسة آياته، بل نزل وأهدافه واضحة وهي هداية البشرية وإخراجهم من عبودية الطاغوت إلى عبودية الله، وصحيح أن القرآن يربينا على منهجية عقلية علمية رصينة تمهد الطريق لفتوحات العلم التجريبي واستكشاف الآيات الكونية، ولكنه ترك هاته الشؤون للبشر فلم يفصل لهم في فيزياء ولا طب ولا جيولوجيا، وعندما تتلو آية من القرآن فتجدها تتحدث عن خلق الكون والسماوات فذلك ليس لأجل تعليمنا الفلك، وعندما تجد آية عن إحياء الأرض بعد موتها بالغيث فاعلم أنه ليس درس جيولوجيا، وإنما ستجد ذلك في سياقات ترشدك إلى الله، عظمته ودقة صنعه أو فضله على عباده بالتسخير.. إلخ. وإن كان ذلك غير مقنع فتعال يا صاحبي لننظر ما يقول القرآن عن نفسه ولنبحث هل يسمي القرآن نفسه -ولو مرة - أنه كتاب للعلوم التجريبية؟ أم أنه كتاب بصائر وهدى؟ لننظر:
(هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية 20)
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (لقمان 2-3)
(طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) (النمل 1-2)
(هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (غافر 54)
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى 17)
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (اﻹسراء 9)
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (اﻷعراف 63)
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (اﻹسراء 82)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ ) (النساء 105)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) (الكهف 1-4)
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل 89)
(وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ) (الحديد 25)
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم) (الزخرف 3-4)
(هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران 138)
وطلبا للاختصار لن أسرد الآيات كلها ولكن القرآن كما نرى يسمي نفسه أنه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وميزان للحكم وإقامة العدل، أي أن القرآن مصدر معرفي آخر مختلف تماما ولا علاقة له بمصادر العلم التجريبي لا بالطريقة والمنهج ولا بالأهداف... ثم يأتيك بعض الملاحدة ليخضعوا مصطلحات الآيات البلاغية -أو التي بها معنى كوني عام لكنه قابل للتأويل- للمعايير العلمية ويبدؤون بالتنظير بمخالفتها للعلم! ومن قال لكم أن علينا إخضاع القرآن للعلم؟ أسبق وقستم مدى جمال الوردة -مثلا- بالمختبر؟
نحن لا نقيس مساحة الأرض بميزان الفاكهة، ولا نقيس كتلة الفاكهة بالمتر! وكذلك لكل علم مصدره ومنهجيته، فكيف نأتي لنص بلاغي حياتيّ ونحاكمه لمنهج مغاير وتجريبي؟ (مجددا: حتى لو حوت الآيات معنى علميا فهي إشارات غير مفصلة مما يجعلها قابلة للتأويل)، وإن شئتم محاكمة القرآن وفحصه فبالأقل حاكموه بميزان العقل وللمناهج الحياتية مثلا -كونها قد تمتلك أهدافا مشتركة- وليس لمناهج مختلفة المنهجية والهدف!
في قصة ذي القرنين مثلا يقول الله: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) (الكهف 86)، يأتيك ملحد ليقول لك أن القرآن بقول أن الشمس تغرب في عين حمئة! مع أنه ليس سياق سرد حقائق علمية بل يتحدث عن رؤية ذي القرنين ويصرح أنه هو من وجدها تغرب في عين حمئة! (وَجَدَهَا تَغْرُبُ) لا أنها هي التي تغرب! هذه الشبهة ساقطة جدا ومتكلفة ولكن لم نسترسل بالرد واكتفينا بالاستشهاد بها كمثال على تحويل مصطلحات القرآن لمصطلحات فلكية وتحميلها ما لا تحمل، ومن أراد الرد عليها تحديدا فلينظر (1).
وذات الكلام حين يثار إشكال أيهما خلق الله أولا: السماء أم الأرض! والبدء باستخراج تاريخ الكون من القرآن ونصب تعارضه مع العلم، وكأن القرآن مستهدفه الرئيس أن نعرف من خلاله التاريخ الكوني، ولو كان كذلك لما قال لنا: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ...) (العنكبوت 20)، والكلام ذاته على أغلب ما قيل أنه معارض للعلم.
وبهذه الطريقة التي يفسرون بها القرآن نحن لن نفهم القرآن، تخيل لو أتى شخص يقول أن الله حين عذب قوم نوح شق في السماء بوابات وفتحت على مصراعيها ونزل المطر، فنقول: من أين أتيت بفهمك؟ فيجيب من قول الله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) (القمر 11). وحرفية الفهم هذه لا تنسجم بالضرورة مع فهم العربي الذي يفهمها على أنها تشبيه بلاغي "فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ: مركب تمثيلي لهيئة اندفاق الأمطار من الجو بهيئة خروج الجماعات من أبواب الدار" (ابن عاشور). تخيلوا حجم الأفهام الغريبة لو أننا نسينا عربية القرآن وفهمناه بهذه الطريقة!
لذا حين تقرأ لملحد عنوانا يقول: "العلم يكذب الدين" فلا تقلق وإن لم تعرف ردا فالعنوان خاطئ بداية! سلهم: أأخبرتم أنه كتاب علومكم؟ وإن بدؤوا عرض أدلتهم من الآيات فقل لهم أنها اعتراضات خاطئة لأن فيها قفزا على المعيار الذي حدده الإسلام لنفسه ومحاكمةً له إلى معيار آخر ليس منه. وليتهم اقتصروا على عنوان أقرب لمعيارية القرآن فادعوا أن العقل يكذب الدين مثلا، ولكن العلم التجريبي معيار خاطئ!
لا أنكر أن القرآن فيه آيات قد تحوي إشارات إلى حقائق علمية، ولكنها كما أسلفنا لا تهدف لشرح تفصيلي للعلم التجريبي، إنما تكون مصوغة بطريقة عامة بحيث تكون قابلة لأكثر من فهم، وبذات الوقت قريبة الفهم فيفهمها الإنسان البسيط والعالم التجريبي دون أن يصطدم كلاهما بوجود تناقض في الآية، على سبيل المثال الله سبحانه وتعالى قال: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس 40)، العامي البسيط يفهم بالمشاهدة اليومية أن منظومة الليل والنهار والشمس والقمر لها قوانين محكمة، مثلا: هو يعرف بمقتضى المشاهدة أن الشمس لا تتكاسل يوما فتشرق بمنتصف اليوم. لكنه لا يفهم كيف يقلب الله الليل والنهار؟ ولم تفصل الآية ذلك. ويفهم أن الشمس والقمر في فلك يسبحون، لكنه لا يعرف كيفية سباحتهما؟ أما العالم التجريبي فيعرف كيف يتقلب الليل والنهار ولا يجد في الآية تعارضا لعدم تصريحها بالكيفية، ويفهم أن الشمس تسبح ولا يجد تعارضا أيضاً لعدم تصريح الآية بالكيفية، أكثر ما يمكن استنباطه من الآية أن هناك نوعا من الحركة تقوم بها الأجرام، لكن لا نعرف طبيعة هذه الحركة ولا شكلها ولا اتجاهها. أعني أن هاته الآيات معانيها عامة، وتحمل قابلية لأكثر من فهم.
كمسلمين إن اكتشف العلم التجريبي أن الأرض مسطحة ونفى كرويتها بما لا يحتمل الشك ستجدنا نحاول فهم الآيات وتفسيرها في ظل ما لدينا من علم تجريبي، وإن أثبت العلم التجريبي أن الأرض كروية ستجدنا أيضاً نتلمس فهم الآيات في ظل ما لدينا من علم تجريبي، مع أننا نعلم علم اليقين أن القرآن أصح قولا على الإطلاق، وأن الله فوق كل ذي علم وأنه ما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً وأنه لن يوجد تناقض البتة بين كلام الله وحقائق كونه، ولكننا نعلم أيضاً أن الآيات التي تتحدث عن الأرض تهدف إلى تنبيهنا لتسخير الأرض لنا لنزداد إيمانا وشكرا حتى وإن كانت تحوي لطائف علمية -ولا ننطلق من تفسير الآية ونسقطه على العلم ونفسره بها- بل العكس، لأننا نعلم أن الله لم يأمرنا أن نهرع إلى القرآن لفهم العلوم الكونية.. وإن فسرنا الآية تفسيرا ثم اكتشفنا مع تطور العلم تناقض تفسيرنا السابق مع العلم نجدد فهمنا للآية ببساطة فالخطأ يقينا لا شك فيه كان بفهمنا الأول لا بالآية!
ولا بد أن أنوه أن هذه المغالطة -للأسف- وقع فيها حديثا الكثير من المفسرين باسم الإعجاز العلمي وقفزوا على معاني الآيات لاستنطاق الآيات عنوة بمفاهيم علمية! ولست أنفي مطلقا أي ارتباط بين فهمنا للقرآن وللعلم الكوني، بل نوفق بينهما فيزداد فهمنا للقرآن، إنما أنكر التكلف باستخراج معنى علمي من القرآن.
وبنظري الشخصي -والله أعلم- أن الآيات هذه فيها نوع من التعميم وقابلة لأكثر من تفسير وهذا فيه من حكمة الله البالغة فهو يعلم أن علوم البشرية ستتطور، وأثناء تطورها قد تنفي اليوم ما أثبتته أمس، فإن كان صرح لنا بعلم طبيعي، وناقض مكتشفاتنا في أحد أطوارها لفُتن الكثير منا وشق علينا، لمزيد من التفصيل راجع (2).
الخلاصة: إن شئت أن تومن فافحص القرآن بعقلك أولا لا بمعامل التجريب.
المراجع
(1) الرد على غروب الشمس في عين حمئة: https://bit.ly/34dagLc
(2) ماذا نفعل لو لو تناقض القرآن والعلم؟ وهل يمكن أن يتعارض القرآن مع العلم؟
http://lies-world.blogspot.com/2014/12/blog-post_12.html?m=1
فاطمة الداعور -رحمها الله-
لقراءة البحث كاملًا: اضغط هنا
ملاحظة: هذا البحث الذي بين أيديكم هو آخر نسخة له وصلتني من فاطمة رحمها الله، وأذكر أني أجريت بعض التعديلات الطفيفة عليه وأرسلته لها، وأعتقد أنها قرأت تعديلاتي ووافقت عليها، لكني لا أذكر جيّدًا فقد مرّ وقتٌ طويل وقد تخونني الذاكرة فسجلت هذه الملاحظة هنا للأمانة، فقد وافتها المنية ولا أستطيع أن أعود لها فأسألها، مع العلم أننا كنا ننوي نشر هذا البحث بصفحة عالم الأكاذيب في حياتها وباسمها وهي على علم بذلك، لكن النشر تأجل وها أنا أنشره الآن بعد رحيلها ليستفيد منه الآخرون ويبقى لها صدقة جارية بإذن الله.
جميع المغالطات:
مغالطات اللادينين 1: الحكم المتهافت بادعاء وجود الأخطاء أو التناقضات
مغالطات اللادينين 2: الاحتجاج بتفاسير خاطئة أو ظنية ومحاكمة الإسلام لها بدلًا من نص الآيات
مغالطات اللادينين 3: التخبط في كثير من اعتراضات المعترضين
مغالطات اللادينيين 4: الجهل بالمنهجية والمصدر المعرفي الـمُتحاكم إليه
مغالطات اللادينيين 5: مغالطة القفز الحكمي
مغالطات اللادينيين 6: نفي القضايا الكلية الكبرى بقضايا جزئية صغرى
مغالطات اللادينيين 7: مغالطة التعارض بين السبب الطبيعي والغيبي
مغالطات اللادينيين 8: النظرة السوداوية والكئيبة أو النظرة المادية الصرفة الخالية من أي معنى!
مغالطات اللادينيين 9: كثير من الضحك وقليل من المنطق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق