السبت، 7 يناير 2023

مغالطات اللادينيين 6: نفي القضايا الكلية الكبرى بقضايا جزئية صغرى


كشف مغالطات اللادينين في طريقة نقدهم للإسلام (6)

المغالطة السادسة: نفي القضايا الكلية الكبرى بقضايا جزئية صغرى


لو كان لدي نظرية عليها عشرون دليلا قطعيا يثبتها ولدي خمس شبهات ظنية مثلا تتعارض مع سلامة النظرية أو توحي أن فيها أحجيات غير مفهومة، فما سيكون موقف العاقل؟ المفترض أن يثبت النظرية بناء على العشرين دليلا القطعي ثم يبدأ مع الأدلة المعارضة فيحاول تفسيرها وفهمها في ضوء الأدلة الثابتة. وهذا شيء طبيعي. فدليل ظني يخطِّئ النظرية أو جزءا من النظرية لا يعني أن النظرية كلها خطأ، ولا يشترط أن تفهم كل شيء جزئي فرعي في أي كتاب/نظرية أو يقنعك كل شيء به حتى تحكم عليه أنه جيد.


وهكذا مع الإسلام، قد يبقى في نفسي شيء من حكم قطع يد السارق مثلا! وفي نفس غيري شيء من حكم ميراث المرأة.. إلخ. ولا يدّعي أحدنا أنه لم يفته فهم شيء، وكذلك أيضا العلماء التجريبيون مثلا لا يدّعون فهم كل شيء في النظريات التي يثبتونها ولكن هذا لا يجعلهم يرفضون النظرية. بل يعني رد المتشابه إلى المحكم والدلالات الأضعف إلى الأقوى.


وهذا من أكثر ما يعاب به على الشبهات -خصوصاً التي تحوي قفزا حكميا- وهي أنها تنسف قضايا كلية مثبتة محكمة بشبهة جزئية فردية هنا أو هناك، تكاد تشبه أن يقول أحدهم: (نحن لا نستطيع إثبات الجاذبية لأن بالونة الهيليوم تطير ولا تسقط أرضا)، وهكذا بعض هذه الشبهات، تنسف قضايا كبرى مثل الإيمان بالله أو بالنبوة والقرآن بسبب جزئية صغيرة لها تحليل ما خفي عنا. فمثلا: شبهة وجود الشر هذه التي يثبتون من خلالها عدم وجود الله خالق الكون هي قضية جزئية، بينما قضية وجود الله قضية كلية كبيرة، وهي مثبتة من خلال المبادئ العقلية الضرورية القطعية -مثل مبدأ السببية- فكيف يصح في الأذهان نفي ثبوت قضية كلية كبيرة مثبتة قطعيا من خلال قضية جزئية صغيرة مثل وجود الشر؟ أليس الأصل أنه إذا أثبتنا الكل وبقي لدينا تساؤلات متفرقة فالمطلوب أن نعاملها بحسب ما اقتضى حالها فننفيها ذاتها أو نعالجها؟ لا أن ننفي من خلالها الكلي المثبت!


وذلك مع أي شبهة أخرى، لنأخذ هذه الشبهة: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) (البقرة 177). مثلا هاته الآية أحد الشبهات التي يقال أن فيها أخطاء لغوية لكون كلمة الصابرين منصوبة، وكقارئة مسلمة قد أكون لا أعلم ردا على خطأ كلامهم، ولا أعلم أن الصواب أنها نصبت لاختصاصها بالمدح -كما يقول أهل اللغة- وقد أقف حيرى أمامها ومع ذلك لا أجد في نفسي شكا بالقرآن، وليس ذلك عن بلادة ذهنية وإيمان أعمى موروث وراثة، كلا، بل لأني أجده كتابا فصيحا متماسكا، ولو كان شعرا من أشعار الجاهلية لفعلت مثل ذلك أيضا ولن أنفي فصاحة القصيدة ولا فصاحة الشعر الجاهلي لأجل جملة واحدة استشكلت علي، بل لعللت لنفسي أن ربما هناك في العربية ما أجهله!


لهذا لا نرى أن مثل هذه الشبهات قادرة على نسف القضايا الكلية حتى وإن كان بعضها يشكل أسئلة منطقية فعلا ولكن يجاب عنها لوحدها (دون إخلالها بما هو أشد منها ثبوتا)، ونحن أتباع الدين الإسلامي موقنون أنه لا شيء خطأ في الإسلام لأنه سماوي، ونحن لا نقول أننا مقتنعون بصحة أصول ديننا ثم ببلادة ذهنية أو تعصب نتملص خلسة مما قد يشكل مخبئين إياه تحت الطاولة! كلا، بل نرد ما أشكل إلى ما هو قطعي، والكثير منا يشكل عليه شيء من الدين ويسهر الليالي بحثا عنه إلى أن يجد ضالته، وحتى إن لم يجدها فهو لا يجد موجبا عقليا أن يهدم إيمانه العملاق لأجل جزئية!


والجدير بالذكر أن العقل البشري من الممكن أن يظل يطرح تساؤلات وتشككات وافتراضات حتى على ما هو مقنع وسليم الأدلة، فهو عقل لا تنتهي افتراضاته، وقد يقول قائل: إني أرى السماء زرقاء ولكني لا أصدق عيناي فالعلم يثبت أنها ليست زرقاء وإنما هذا ما نراه، وقد يقول آخر: إن من لديهم عمى ألوان لا يرون الألوان على حقيقتها، أليسوا مخدوعين بما يرونه ويظنونه حقيقة؟ أليس من الممكن أن نكون نحن الأصحاء أيضا مخدوعين والألوان ليست بحسب ما نراها؟ نعم.. قد يتسفسط العقل البشري إلى ما لا نهاية حتى يشكك فيما يراه بعينيه وحتى يقول أنه لا يصدق حواسه ولعله يسرد لذلك حججا!


لكن العقل البشري مهما شكك -ولو بما يراه مثلا- فسيبقى دوما يستخدم حاسة النظر بالحكم على الأشياء وسيحكم على الأرض أنها مخضرة والزهور حمراء... إلخ. ولا نُجري حكم التشكيك بحجة أننا نُخدع إذ نحكم على السماء بالزرقة! لأننا في تلك اللحظة لن نستطيع نظم أي منهجية معرفية ولا اكتساب أي علم مطلقا وسنصل إلى اللاشيء ونشكك بكل شيء.


والخلاصة: هو أننا ليس شرطا أن نقدر على الإجابة عن كل شيء وكل جزئية، وحتى إن أجبنا فسنخترع أسئلة أخرى وأخرى، وهذا في كل الميادين لا في الدين وحده لذا إن اقتنعنا بالإسلام جملة فلا يردنا عنه قضية مفردة مشتبهة، ثم أننا في أسئلتنا الدينية علينا التمييز بين التساؤلات العقلانية التي نحتاجها فعلا والأسئلة السفسطائية التي لا نهاية لها ولا جواب عليها.


فاطمة الداعور -رحمها الله-


لقراءة البحث كاملًا: اضغط هنا


ملاحظة: هذا البحث الذي بين أيديكم هو آخر نسخة له وصلتني من فاطمة رحمها الله، وأذكر أني أجريت بعض التعديلات الطفيفة عليه وأرسلته لها، وأعتقد أنها قرأت تعديلاتي ووافقت عليها، لكني لا أذكر جيّدًا فقد مرّ وقتٌ طويل وقد تخونني الذاكرة فسجلت هذه الملاحظة هنا للأمانة، فقد وافتها المنية ولا أستطيع أن أعود لها فأسألها، مع العلم أننا كنا ننوي نشر هذا البحث بصفحة عالم الأكاذيب في حياتها وباسمها وهي على علم بذلك، لكن النشر تأجل وها أنا أنشره الآن بعد رحيلها ليستفيد منه الآخرون ويبقى لها صدقة جارية بإذن الله.


جميع المغالطات:


مغالطات اللادينين 1: الحكم المتهافت بادعاء وجود الأخطاء أو التناقضات

مغالطات اللادينين 2: الاحتجاج بتفاسير خاطئة أو ظنية ومحاكمة الإسلام لها بدلًا من نص الآيات

مغالطات اللادينين 3: التخبط في كثير من اعتراضات المعترضين

مغالطات اللادينيين 4: الجهل بالمنهجية والمصدر المعرفي الـمُتحاكم إليه

مغالطات اللادينيين 5: مغالطة القفز الحكمي

مغالطات اللادينيين 6: نفي القضايا الكلية الكبرى بقضايا جزئية صغرى

مغالطات اللادينيين 7: مغالطة التعارض بين السبب الطبيعي والغيبي

مغالطات اللادينيين 8: النظرة السوداوية والكئيبة أو النظرة المادية الصرفة الخالية من أي معنى!

مغالطات اللادينيين 9: كثير من الضحك وقليل من المنطق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: