"نظرية التطور تقول أن الإنسان أصله قرد"
"إذا كان البشر قد تطوروا من قرود فلم لم تنقرض القرود؟"
هاتان العبارتان هما أحد أبرز العبارات التي أقرؤها أو أسمعها من معارضي نظرية التطور، وهما بقدر شيوعهما بقدر ما تدلان على جهل قائليها بأبسط أساسيات وبديهيات النظرية. من حق أي إنسان أن تكون له آراءه الخاصة به، ومن حقه أن يرفض فكرة ما أو أن يقبلها... لكن، يجب عليه قبل أن يفعل أيا من ذلك أن يفهم تلك الفكرة جيدًا، ولا يكون ذلك إلا باتباع منهجية علمية محايدة.
فما هي هذه المنهجية وكيف يمكن اتباعها؟
أولا: خذ الفكرة من منبعها الأصلي
إحدى أهم المغالطات التي يقع فيها الكثير هي أخذ معلوماتهم عن فكرة ما من معارضي تلك الفكرة!
لأن المنطق والحيادية يستلزمان أن تسمع مباشرة من أصحاب تلك الفكرة أو المعتقد لأنه لن يعبر عن فكرتهم بأفضل تعبير غيرهم. المعارضون لن يكونوا محايدين في إيصال النظرية لك وعادة ما يعرضونها إما منقوصة أو مختلة أو ممزوجة بنظراتهم وأفكارهم الشخصية (وقد يفعلون ذلك دون قصد وإن بذلوا وسعهم في أن يكونوا محايدين). هذا الأمر طبقه على أي فكرة أو معتقد أو دين أو نظرية (كالتطور). فمثلا لو أردت أن تفهم البوذية فلا تسمع من المسلم بل من البوذي نفسه! وسيدهشك الاختلاف في الأفكار وفي إيصال الفكرة بينهما! وهذا ليس طعنا في مصداقية المسلم لكنه تقرير لحقيقة لا جدال فيها وهي أنه لا يعبر عن الفكرة أفضل من الذي يؤمن بها. فمثلا هناك فكرة منتشرة جدًا في أوساط المسلمين ونسمعها في محاضراتنا ومقالاتنا الإسلامية وهي أن بوذا هو إله الديانة البوذية! وهي معلومة خاطئة وغير دقيقة وستعرضك لسخرية أي بوذي يسمعها!
إذن: إن أردت فهم فكرة (أو معتقد أو نظرية ما) فعليك القراءة مباشرة من أصحابها دون وسائط ثم الحكم على تلك الفكرة بنفسك وبعقلك! لا تختصر المسافة فتقرأ من ناقل يقوم بمهمة التفكير بدل عنك!
توضيح: أنا لا أقول لا تقرأ للمعترضين! بالعكس القراءة لهم ستثريك وتطلعك على الموضوع من جوانب أخرى. بل إني أنصح بالقراءة للمعارضين والمؤيدين على السواء، بل اقرأ حجج الطرفين وردود كل طرف على حجج الآخر ثم رجحها بعقلك الذي وهبك الله إياه وبهذه الطريقة تكون اتبعت رأيا وصلت له بعلم واطلاع لا باتباع وجهل.
البعض قد يستثقل كل هذا وفي الحقيقة نحن في زمن الإنترنت وتوفر المعلومات بنقرات سريعة فلا أدري ما عذر المتثاقلين؟
إن نظرية التطور تعد إحدى أكبر وأهم النظريات العلمية وهي نظرية قامت بثورة في علم الأحياء فغيرته بطريقة جذرية، وهي نظرية يؤيدهها 97% من علماء الأحياء [1]، بل إنها تدرس في جميع الجامعات العلمية المعتبرة. نظرية بهذا الثقل وبهذا الانتشار أليس من السذاجة أن يكون علم المسلمين فيها ملخصه جملة (الإنسان تطور من قرد)؟
إن هذا الجهل أمر لا يليق بمسلم ينتمي لأمة اقرأ، أليس المسلم مطالبًا بالعلم والتعلم والنظر كيف بدأ الخلق والسؤال والبحث والتحقق؟ أليس من السطحية أن نسير وراء الأجوبة السهلة التي يأتينا بها مثقفونا ودعاتنا ومشايخنا؟ فما فائدة العقل الذي وهبنا الله إياه وقتها؟
ثانيًا: افصل الدين وضعه جانبًا
هذا الكلام قد يصدم البعض وقد يرفضه البعض الآخر. لكن في الحقيقة إن أردت أن تنظر لأي أمر بطريقة حيادية فإن عليك أن تنزع عن رأسك أي فكرة أخرى قد تشوشه عليك. بالنسبة لنظرية التطور تلك الفكرة التي قد تشوش هي القول (أن النظرية معارضة للدين). وبسببها يرفض الكثير النظر للتطور بطريقة محايدة ويصرون على رفضها. وهم بذلك يتصرفون تمامًا مثلما تصرف مشركوا قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا صما بكما عميا، والسبب؟ لأن ما يقوله معارض لما يؤمنون به وورثوه أبا عن جد. وللأسف أصبح الكثيرون منا مثلهم يعترضون على كل جديد دون فرصة للاستماع والفحص المتعقل.
ديننا هو دين الحق ودين العلم، ومن يرفض العلم بحجة أنه مناقض للدين خسر دينه وعلمه معًا. لا يصح أن نرفض شيئا بحجة أنه (مناقض للدين) بل علينا أن نزنه كما هو بميزان العقل والعلم فإن نجح نمرره وإن فشل نسقطه. لو وزنا كل نظرية علمية جديدة بميزان الدين فإن ذلك سيقضي على الطريقة العلمية المحايدة وعلى العلوم ككل، وسيجعل علماء الدين يتدخلون في العلم تحليلا وتحريما فيرفضون النظرية الفلانية لأنها تتناقض مع الدين كما يفهمونه هم. وهو ما رأيناه يحصل مع قضية كروية الأرض ورفض شريحة من الشيوخ لها بحجة أنها مناقضة لنصوص الدين! بل إن بعضهم حرَّم الطباعة أول ظهورها وها نحن نستخدمها اليوم دون إشكاليات!
إن إدخال الدين في العلم تحليلا وتحريما سيقضي على جميع العلوم ويبقينا في عصور التخلف والانحطاط التي مازلنا لم نخرج منها بعد.
العلم يجب أن يوزن بميزان العلم والعقل! فإن رجح في ذلك الميزان فتأكدوا بأن التدين السليم لا يرفضه ولا يحق له أن يرفض! لأن الإسلام دين العلم والعقل. ولو رفضنا نظرية ما بسبب تناقضها مع الدين فإن الدين الذي ندين به ليس دين علم بل دين مناقض للفكر والتفكير! ولا أعتقد بأن مسلما يقول بذلك. على المسلم أن لا يخشى من العلم والعقل ومن التفكير فالله لا يخشى من الحق.
وأنصح بمراجعة المقال التالي بعنوان: (ماذا نفعل لو تناقض القرآن والعلم؟ وهل يمكن أن يتناقض القرآن مع العلم؟)
أعلم أنه من الصعب على المسلم المتدين أن يضع أفكاره المسبقة جانبًا وهو ينظر لنظرية التطور (خصوصا أن هذه النظرية قد ربطت بالإلحاد كثيرًا)، لكن دعوني أقول لكم شيئا يسهل هذه العملية: تأكدوا وتيقنوا بأن هذه النظرية لو كانت حقيقية فإنه لا يمكنها أبدا أن تناقض الدين وإن كان هناك تناقض فإن ذلك لا يعني غير أن هناك خللا ما في أفهامنا.
ثالثا: فرّق بين الفكرة والشخص
الذي يقول لك: (نظرية التطور نظرية ملحدين) قل له: (أنا أنظر في النظرية نفسها لا في صاحبها!). نعم، إنه منهج التفريق بين الفكرة والشخص، وهو أساس مهم من أساسيات التفكير المنطقي السليم. ولا أجد أفضل من هذه المقولة تعبيرا عن ذلك: (الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق).
لا يصح أن ترفض فكرة ما فقط لأن قائلها ملحد أو طفل أو غبي أو مجنون أو عدو لك أو أيا كان! هذا منهج المتبعين لأهوائهم، أما المنهج السليم فهو أخذ الفكرة كما هي وتمحيصها بعقلانية بغض النظر عن قائلها.
إن العلم الذي نعيش به ونأكل ونشرب هو علم غربي في مجمله! ولا أفهم لم نقبل كل شيء فيه ثم جئنا على التطور وقلنا هذه نظرية ملحدة وهذه مؤامرة غربية ونوايا مؤيديها ليست سليمة وغيرها من حجج بالية!
إذن لم لا تكون نظرية النسبية يهودية لأن أنشتاين يهودي؟ ونظرية الجاذبية مسيحية لأن نيوتن مسيحي... إلخ! إن هذه المنهجية هي منهجية متعبي الأهواء... إنه من السذاجة أن نحكم على فكرة ما من خلال صفات أو معتقدات أو حتى نوايا متبعيها.
نصيحتي: حين تسمع أي فكرة جديدة فانس شخصية قائلها وإن كان إنسانًا تحتقره أو لا تتفق معه، واحكم عليها وكأن من قالها شخص تتفق معه وتحترمه.
مغالطات منتشرة حول نظرية التطور
1/ نظرية التطور نظرية إلحاد وملحدين
التطور مجرد نظرية علمية لا علاقة لها بإلحاد أو بدين! وإنه من المغالطة والظلم ربطها بالإلحاد، والمؤمنون بالنظرية ينتمون لجميع المعتقدات والديانات والشرائح الثقافية... تقول الإحصائيات بأن نسبة قبولها لدى المسلمين تبلغ 45% [2]... ومن الأسماء المشهورة التي تحضرني: رنا الدجاني عالمة مسلمة مختصة في الأحياء الجزيئية، وإهاب أبو حيف وهو عالم أحياء تطورية مسلم، وفرانسيس كولينز Francis Collins وهو عالم جينات مسيحي وله كتاب شهير إسمه (لغة الإله)، يشرح التطور وأدلتها وموجه للمسيحيين حيث يطلب منهم عدم رفض العلم لأن الدين يجب أن لا يخشى من الحق. أذكر هذه الأسماء لأنها شخصيات متدينة ملتزمة بدينها لكنها أيضا نشطة ولها نشاط منوع يهدف لتوعية الجماهير المتدينة بأبجديات النظرية وتبسيطها لهم.
إن التطور نظرية تفسر كيفية نشأة الأنواع ولا تتعرض لدين أو إلحاد. صحيح أن الكثير من الملحدين استغلوها ليزيحوا الديانات جانبا والمتدينون وافقوهم برفضهم القاطع للنظرية! وذلك ليس غلطة النظرية ذاتها. الملحدون سيمسكون أي شيء محاولة منهم لإزاحة الدين، لكن هل علينا نحن المتدينين أن نتركهم يفعلون ذلك؟ رفضنا القاطع للنظرية أعطاهم الفرصة ليقولوا: انظروا كيف أن الدين يناقض العلم! إن المتدين حين يرفض فكرة ما بحجج دينية فإنه يعرض الدين للسخرية والنقض في حال إثبات تلك الفكرة، وهو ما حصل مع التطور.
ارفض التطور أو أي نظرية أخرى تريد إن شئت، لكن لا تجعل ذلك يكون إلا بحجج علمية رصينة، وإياك أن تستخدم الدين سببًا لرفضك.
2/ التطور يعارض قصة خلق آدم (عليه السلام)
أعتقد بأن التناقض المزعوم بين قصة الخلق والتطور مصدره الإسرائيليات بشكل كبير، لأن قصة الخلق الإسلامية عبارة عن رؤوس أقلام خالية من الكثير من التفاصيل، مما يسمح بكثير من المرونة في فهمها فقط لو نزعنا عن رؤوسنا التأويلات القديمة والتي هي متأثرة بالإسرائيليات. وعلينا أن لا ننسى بأن عندنا رجال دين موافقين لهذه النظرية، وعندنا آخرون وقفوا في الحياد فقالوا لو أثبتها العلم بطريقة لا تقبل الشك نقبلها ونعيد تفسير القرآن.
آدم أول البشر
حسب نظرية التطور البشرية جمعاء جاءت من سلالة طويلة تطورت عبر مرور الزمن، أي أن آدم عليه السلام وغيره من بشر كان لهم آباء وأمهات والذين كان لهم آباء وأمهات وهكذا في سلسلة طويلة عبر ملايين السنين التطورية في سلف مشترك مع جميع الكائنات والمخلوقات الحية.
أما الفهم الديني السائد هو أن آدم خلق خلقًا لحظيًا وأنه كان أول إنسان لا سابق له ومنه انحدرت البشرية جمعاء. لكن السائد هل يعني بأنه الوحيد؟ وهل يعني بأنه قطعي؟ وهل يعني بأنه لا مجال لإعادة الفهم؟ فهل هناك نص قطعي بأن آدم عليه السلام هو أبو جميع البشر؟ في جواب هذا السؤال أنصح بقراءة البحث التالي في كتاب مجلة المنار (ص22) (اضغط هنا)، وملخصه أنه لا دليل قطعي يقطع بأن آدم هو أبو البشرية جمعاء: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] [...] لا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبنائه، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء." (تفسير المنار، النساء، 1)
ملاحظة: كون البشرية جمعاء لها أب واحد مشترك هو أمر لا يتناقض مع آخر المستجدات العلمية، وفي العلم يسمون هذا الأب (الأحدث) المشترك بآدم الصبغي واي.
إن من المفسرين ومن قديم من قال بوجود أصناف أخرى من الحيوانات العاقلة التي تسبق الإنسان، فهذه ليست فكرة جديدة: "ثم إن للمفسرين في (الخليفة) مذهبين: ذهب بعضهم إلى أن هذا اللفظ يشعر بأنه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق وأنه انقرض، وأن هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأن سيجعله خليفة في الأرض سيحل محله ويخلفه، كما قال - تعالى - بعد ذكر إهلاك القرون: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} [يونس: 14] وقالوا: إن ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء، وأن الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه؛ لأن الخليفة لا بد أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم، ولكن لما لم يكن دليل على أنه يكون مثله من كل وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة، أجاب الله الملائكة بأنه يعلم ما لا يعلمون مما يمتاز به هذا الخليفة على من قبله، وماله سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة. قال الأستاذ: وإذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا." تفسير المنار، البقرة، 30.
واقرؤوا هذا الكلام من تفسير سورة النساء لترو التنوع في الأفهام عند المسلمين أنفسهم ومن قديم: "وقد نقل عن الإمامية، والصوفية أنه كان قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب، وعندنا آدمون كثيرون، قال في روح المعاني: وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله -تعالى- خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم، وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم -عليه السلام-. وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى، والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين، وقال الميثم في شرحه الكبير للنهج: ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم، أو أكثر. وذكر الشيخ الأكبر -قدس سره- في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره. وفي كتاب الخصائص (لابن بابويه كما في الهامش) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن [...]" انتهى المراد منه. وفي المسألة نُقول أخرى في الفتوحات وغيرها، ثم نقل عن زين العرب القول بكفر من يقول بتعدد آدم. وهذا من جرأته، وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لأوهى الشبهات." (تفسير المنار، النساء 1). ننقل هذه الآراء القديمة ليس لأننا نرى صحتها أو نوافق عليها، بل لنثبت وجود التنوع والتعدد في فهم قصة الخلق في ديننا، وأن فكرة أن آدم عليه السلام هو أول البشر دون أن يكون هناك بشر قبله فكرة ليست قطعية كما يعتقد البعض.
وفي خلافة آدم للأرض أيضا رأي يقول بأن ذلك يكون لأنه خليف لأمة من الخلق كانوا قبله: "الخليفة من يخلف من قبله في أمر كان عليه، جمعه خلفاء وخلائف ومنه قوله: "وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ" ومثلها آيات. وخلافة آدم فيها وجهان أحدهما أنه وذريته يخلفون أمة من الخلق كانت قبلهم. والثاني أنه خليفة لله تعالى في أرضه [...]." فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ص2500.
جنة آدم
أما جنة آدم عليه السلام، فعلينا أن لا ننسى بأن هناك اختلافا في تفسيرها وهناك من فسر جنة آدم بأنها جنة في الأرض لا تعني جنة الفردوس السمائية بالضرورة: "[...] اختلف علماء المسلمين من أهل السنة وغيرهم في {الجنة} هل هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه كما يفهمه أهل اللغة؟ أم هي الدار الموعود بها في الآخرة؟ والمحققون من أهل السنة على الأول. قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره بالتأويلات: نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم." (تفسير المنار، البقرة 35).
وقال في موضع لاحق في تفسير (وَقُلْنَا اهْبِطُوا): "والأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه؛ ولذلك احتج به من قال: إن آدم كان في السماء، وقد يستعمل في مطلق الانتقال أو مع اعتبار العلو والسفل في المعنى، وقال الراغب: الهبوط الانحدار على سبيل القهر، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة، فسمة الخروج منها هبوطا، أو سمي بذلك؛ لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال: هبط من بلد إلى بلد، كقوله - تعالى - لبني إسرائيل: {اهبطوا مصرا} [البقرة: 61]." (تفسير المنار، البقرة 36).
أمره بين كن فيكون فكيف يخلق الله الأحياء بتدرج تطوري؟
لو قرأت عن النظرية حقا فإنني متأكدة بأنك ستجد قلبك وكلك يهتز تعظيما وتسبيحًا! إني أرى الخلق بالتطور أعظم وأدهش من الخلق اللحظي بـ (كن فيكون) وهو أمر لن يستشعره إلا شخص فهم النظرية بعمقها.
أن يخلق الله كائنات بشكل مفاجئ أمر لا يعجزه، لكن تخيل معي أن الله خلق في خلقه القدرة على التطور والتكيف والتنوع، فيصبح الخلق أنواعا مختلفة لم تكن موجودة من قبل؟ أليس ذلك أمر يجعلكَ تقف مكانك اندهاشًا وتسبيحًا؟!
تخيل أن يصنع الإنسان سيارة، سيدهشك هذا الاختراع العجيب. لكن تخيل أن يصنع أحد سيارة تتكيف حسب بيئتها فتارة تتحول لطائرة، وتارة تتحول لباخرة، وتارة لقطار... إلخ. ألن يدهشك هذا أكثر وأكثر؟ مع الفارق الكبير بين الأمرين طبعا.
إن الخلق التدريجي لا يناقض شيئا في ديننا، فالله خلق الأرض والسماء في ستة أيام، ونحن نعلم أن اليوم عند الله ليس كأيامنا البشرية، فما المانع أن يُخلق الإنسان بنفس الطريقة؟ نحن نقبل كل النظريات العلمية التي تفسر لنا ظهور الكون والسماء والأرض، نظرية الانفجار العظيم وكيف تشكلت الأجرام والكواكب... كلها تشكلت عبر ملايين السنين ولم تُخلق لحظيا بل تطورت رويدا رويدا، حتى تشكلت لدينا الشمس والقمر والأرض والسماء والفضاء بهيئاتهم التي نعرفها اليوم. نقبل أن يقول العلم بتطور الكواكب والأجرام لكن حين يقول تطور الإنسان لا يعجبنا ونقول لا هذا انتقاص من قدر الله!
(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر 57)
ختامًا
الرأي الآخر والفهم الآخر موجود، وما هو سائد وشائع قد لا يكون بتلك القطعية التي يعتقدها البعض... فالحق ليس دومًا ما عليه أغلب الناس.
علينا أن نفتح باب الحوار بحرية وأريحية بعيدًا عن التكفير والتهميش والترهيب والتخويف الذي لا يقدم ولا يؤخر! بحاجة لبيئة تسمح للمسلم أن يعبر عن رأيه دون خوف من أن يتهم بالكفر أو بالإلحاد وغيرها من ألقاب تحجر الفكر والتقدم. أنا متأكدة بوجود عدد لا يستهان به من المسلمين حائرون بين دينهم وبين العلم يؤمنون بهذا وبذاك، ولا يعرفون كيف يجمعون بين الاثنين والسبب إصرارنا على إدخالهما في بعضيهما فشوهنا الدين وشوهنا العلم. وهناك عدد آخر لا يجد الشجاعة ليعبر عن إيمانه بالنظرية خشية أن يتهم بالإلحاد!
نظرية التطور علمية راسخة، ولنفترض جدلا أنها نظرية كاذبة وأنه بعد 100 سنة من الآن سيكتشف العلم ما سينسفها نسفا. لنفترض ذلك... إن ذلك لا يغير من الأمر شيئا افتحوا الأبواب للعقول لتناقش النظرية بالعلم والعلم فقط لأنها نظرية في مجال العلم لا مجال الدين ودعوا الدين في مجاله ولا تخلطوا بين الأمرين!
أختم بهذا الاقتباس الرائع لمحمد رشيد رضا في تفسير (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء 1): "هذا وإن المتبادر من لفظ النفس -بصرف النظر عن الروايات، والتقاليد المسلمات- أنها هي الماهية، أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات، أي خلقكم من جنس واحد، وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم -كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين- أو بدئت بغيره وانقرضوا كما قاله بعض الشيعة والصوفية، أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات، أو خلق مستقلا على ما عليه الخلاف بين الناس في هذا العصر [...].
[...] وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسا، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس، وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الأجناس والأصناف: إنهم إخوتنا في الإنسانية، فيعدون الإنسانية مناط الوحدة، وداعية الألفة والتعاطف بين البشر، سواء اعتقدوا أن أباهم آدم -عليه السلام- أو القرد، أو غير ذلك. وهذا المعنى هو المراد من تذكير الناس بأنهم من نفس واحدة؛ لأنه مقدمة للكلام في حقوق الأيتام، والأرحام؛ وليس كلاما مستقلا لبيان مسائل الخلق والتكوين بالتفصيل؛ لأن هذا ليس من مقاصد الدين." (تفسير المنار، النساء 1).
هذا والله أعلم، فإن أصبت فمنه وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
راجع أيضا:
آدم بين نظرية التطور وقصة الخلق
هل من نقطة التقاء ممكنة بين الدين ونظرية التطور؟
هل نظرية التطور متوافقة مع القرآن
أين آدم عليه السلام في نظرية التطور؟
المراجع:
(1)http://ncse.com/news/2009/07/views-evolution-among-public-scientists-004904
(2) http://en.wikipedia.org/wiki/Level_of_support_for_evolution
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قل خيرًا أو اصمت: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)