الجمعة، 1 مارس 2019

هل من نقطة التقاء ممكنة بين الدين ونظرية التطور؟


يعتقد البعض أن التعارض ليس حتميًّا كما يبدو للأغلبية. على الأقل هناك من لا يرى التعارض بهذه الحدة.
الأمر بالنسبة لهم يعتمد على: من أين ترى قصة الخلق كما وردت في النصوص الدينية، ومن أين تراها كما ترويها نظرية التطور؟
يمكنك أن تتعامل مع النصوص الدينية كما لو كانت تعطيك الصورة الكبيرة، الشاملة..
الصورة الكبيرة تقول لك إن الله خلق السماء والأرض وكل ما بينهما، ثم من الطين خلق الإنسان الأول.. آدم.
نظرية التطور تعطيك التفاصيل البيولوجية، التفاصيل الصغيرة التي لا تراها عندما تقف من بعيد لترى الصورة الكبيرة.. وهي لا تقول إن الانتقاء الطبيعي هو الخالق -ولكنها توضح واحدة من الآليات التي يمكن أن نفهم أن الخلق تم عبرها.
كمثال: أنت في المطعم وطلبت وجبة طعام ووصلتك ساخنة وشهية. أنت تعرف عمليًّا أن الطباخ هو الذي أعدها.. وأن هناك من ساعده في ذلك.. وأن هناك من تسوق وانتقى مكوناتها.. وأنت تعرف بعد كل ذلك أنها دخلت الفرن لتنضج وتكون كما تريد.
لكنك بعد كل هذا لن تعتقد أن الفرن هو الذي صنع لك طعامك.
بل تعرف أن الفرن كان مجرد وسيلة، وأن الطباخ ومن معه هم الذين صنعوا الطعام من مواد أولية متوفرة في الطبيعة أصلًا.
الانتقاء الطبيعي هو مثل الفرن في هذا المثال.. مجرد وسيلة وأداة، ولله المثل الأعلى، فهو ليس فقط من صنع الفرن ووضع درجة حرارته على النحو المناسب ووضع المواد الأولية بالنسب المطلوبة بل إنه من خلق المواد الأولية أصلًا.
بطبيعة الحال مثال وجبة الطعام مجرد مثال، فالخلق لم يحدث مرة واحدة، بل عبر سلسلة طويلة من عمليات الطبخ -أو الانتقاء الطبيعي المتتالية.. إلى أن وصلت هذه العمليات إلى الإنسان الأول.
مثال آخر: إذا سألك ابنك الصغير السؤال التقليدي كيف يأتي الأطفال إلى العالم؟ وأجبته بأنهم يأتون عندما يتزوج الأم والأب، فإنك عمليًّا لا تكذب.. لكنك تقول (الصورة الكبيرة) المناسبة لطفلك.. وهذا لا يتعارض مع التفاصيل البيولوجية المتعلقة بعملية تكون الجنين.
الأمر يشبه أن فيلمًا صُوِّر لتاريخ نشوء المخلوقات على الأرض، الفيلم يعرض بسرعة فائقة جدا لحين ظهور الإنسان، عندها تبدأ سرعة الفيلم بالتباطؤ وتصبح عادية تماما.
كل ما سبق ظهور الإنسان كان سريعا جدا، لذا فهو بدا لنا كهُنَيهَة ولم نر أي تفاصيل. شاهدنا الأرض والجبال والمحياطات والبحار والقارات تتكون وتتغير أشكالها سريعا ومرت فترة تطور الكائنات الحية وتنوعها والانتقاء الطبيعي بسرعة جدا بحيث لم نلحظ شيئا..
النصوص الدينية تقدم لنا الأمر على هذا النحو.. تبدأ لنا من تاريخ وجودنا نحن "كنوع إنساني".
نظرية التطور تحاول أن تبطئ الفيلم.
حسب وجهة النظر هذه: لا تعارض حقيقي بين العرضين. حتى لو رأينا مشكلة هنا أو هناك في الفيلم عندما عاد إلى السرعة الطبيعية، فإن هذا لا يكفي لإلغائه بالمرة.
ليس هذا فقط، فالبعض يجد في الكثير من آيات القرآن ما يدعم فكرة التطور في مجملها..
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت: 20).
فهنا ثمة إشارة إلى البحث في الأرض عن أصل الخلق وطريقة نشوء المخلوقات دون الاكتفاء بما ورد في القرآن..
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح: 14)
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور: 45).
(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام: 98)
(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: 30).
بل إن سؤال الملائكة الشهير (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30) يمكن أن يُنظر إليه في ضوء الانقتاء الطبيعي القاسي الذي كانت كل المخلوقات تعيش فيه دون دستور أخلاقي غير قانون البقاء للأقوى إلى تلك المرحلة.
بالنسبة للمؤمنين بالله وبالانتقاء الطبيعي، فهذا الاخير ليس سوى آلية من آليات الله في خلقه.. جزء من سننه وقوانينه التي لا يمكن أن تكون بديلة له..
وربما من المهم أن أذكر هنا أن النظرية في اول انتشارها في أوروبا كانت تُتهم من قبل معارضيها بأنها "محمدية" ربما لأن فكرة التطور "بشكل عام" كانت موجودة في التراث الإسلامي، حيث أشار لها غير واحد من فلاسفة المسلمين مثل (الجاحظ) و(إخوان الصفا) و(ابن خلدون).

[...] 

الخلاصة في كل هذا: ليس من المطلوب منك كمؤمن أن تصدق بنظرية التطور إن كان الأمر لا يعنيك ولا يشكل لك أزمة، نظرية التطور ليست من أركان الإيمان ولا فروعه ولن تكون كذلك بالتأكيد.. لكن إن آمن آخرون بها وجمعوا بينها وبين إيمانهم بالله، فمن الخطأ جدا أن تحاربهم وتحارب ما يؤمنون به..

أحمد خيري العمري؛ ليطمئن عقلي؛ ص178-180 وص183

طالع أيضًا:
آدم بين نظرية التطور وقصة الخلق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: