هذا المقال الأول من بضع مقالات حول الإعجاز العلمي ومشاكله المنهجية.
وأقصد هنا الإعجاز "كرؤية منهجية" ولا أقصد المكذوب منه، فهو أتفه من أن نلتفت إليه، فضلا على أنّه يقتات على الأساس المنهجي للإعجاز العلميّ عامة، ولولا وجود الأصل ورواجه ما تفرّع عنه الكذب والتلفيق في الإعجاز.
[...]
** كان لزاما علينا بادئ ذي بدأ أن نعلم أن آيات القرآن لا تخرج "دائما" مخرج الإقرار والتسليم، بقدر ما تكون حكاية على الألسن، قد يُقرّها الله تعالى أحيانا بقرينة قد تكون خارجة عن الآية نفسها مثل: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} فأقر الله أن الأصنام عدوة لله وأنبيائه. أو يرفُضها أحيانا، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أو يسكت عنها أحيانا أخرى خصوصا في القضايا العلمية لعدَم ترتّب أي شيء من الجزاء والمجازاة عليها، مثل آية مجيء الشمس، أو (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) نسبة لرؤية ذي القرنين، أو (قلوب لا يعقلون بها) وليس تقريرا لحقيقة علمية من الحكيم العليم.
ـ فلا بدّ بداية من تقسيم الكلام في القرآن والسنة إلى أقسام، لأن بعض أقسامه لا تصلح أن تكون دليلا على الإعجاز والإخبار المُعجز. لأنّها ببساطة مجرّد وصْف يراعي فهم الناس، فلا يُخاطَبون إلاّ بما يفهمون في زمانهم. ومن اعترض علينا في هذا فهو يُقرّ (ولا بدّ) أن أهل الصحراء في الجزيرة كانوا يعلمون حقائقا علميّة قبل اكتشافها!! مؤدّيا بنا إلى أمرين لا ثالثَ لهما:
ـ1- إمّا أنّ الله تعالى أنزل القرآن على شرْط استيعابه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فراعى فهمهم ومعرفتهم وثقافتهم، إذْ الغرض ليس التعجيز بل البيان، ويكون بذلك الجانب العلميّ على نفس القدر السائد آنذاك (ويجب التنبّه أن هذا لا يعني أن علم الله تعالى شبيه بعلم البشر، ولا أنّ الله تعالى قال في كتابه ما ساد من أوهام وخرافات آنذاك، تعالى الله وكتابه عن ذلك علوّا كبيرا. ولكن قصدي هنا أنّه سكت عن بعضها، أو وصف بعضها وصفا لا يتعارض مع فهمهم آنذاك، وفي الوقت نفسه لن يتعارض مع علم مستقبليّ)
ـ2- وإمّا أن نقول أنّ القرآن فيه من العلوم والحقائق التقنية الكثير، وبهذا يكون العرَبُ (حسب حكمة البيان) قد فهموا تلك الحقائق وعرفوا مرادها بما أنّ استيعابها شرط "مُتحقّق" فيهم بنصّ الآية. ونتيجةُ ذلك أنّ العرب والمسلمين قد عرفوا العلوم الحديثة قبل انبعاثها متعثّرة على مرّ القرون. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين هي آثار تلك العلوم والفهم "الاستباقيّ" لها؟!
ـ أيْضا يجب التنبُّه إلى أنَّ الإشارَات العلمية، لا تكون حسب اللغة العلمية، لذلك فهي ليست قطعية الدلالة ولم يُــرَد لها أن تكون كذلك، ولا يُمكن فهمُها إلا في حدود معرفة معيّنة. فكل زَمَان يتميّز "بسقْف إبستمولوجيّ" يَحكُم العقول والتصورات. فلن نجد مثلا في آية الأنفال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} مصطلحات علمية مثل "استراتيجية الهجرة" أو "الاستقلال الاقتصادي" "حريّة صنع القرار في المدينة" "الهيمنة العسكرية للأنصار" "الموقع الجيوستراتيجي ليثرب"... فهذه كلها مفاهيم تدرس في العلوم الانسانية والسياسية والعسكرية... فلماذا لم تظهر في الآية مع أن الوصف منطبق عليها؟! ثم لماذا ستشكّل العلوم الإنسانية استثناء في الإعجاز العلمي عكس نظيرتها العلوم الطبيعية؟
من هنا وجب علينا الاعتراف أنّ فهْم كلّ عصر للقرآن يكون حسب منتهى عقول أصحاب ذلك العصر (بدليل أنّ علماء القرون الوسطى كانوا يفسرون نفس الآية والحديث بما لا يُفسّره أحد الآن!)، ولا يضرّهم أن تغيب عنهم بعض الأمور العلميّة والتقنية أو جُلّها، لأن توضيح الشرائع والعقائد والمُعاملات هو القصد الأساسي للوحيْ، ولهذا كانت أوّل ما فُهم من القرآن والسنّة عكس القضايا العلمية الأخرى.
ولا عجب من هذا القول إذا تأمّلنا أنّ غاية ما يقدّمه الوحي في مجال العلوم، يبقى إشارات فقط، إشارات لا يُشترط فيها أن تكون كشْفا لعلوم لم تبلغها العقول البشرية. لأن دور الوحي ليس هو تعليم العلوم ولا إثباتها أو إنكارها، فمهمّته الأساسية هي توضيح أمور غيبية ليس لها مصدر إلا وحيْ الله سبحانه.
أمّا العلوم فإن مصدرها بشريّ، وتوكيلها للبشر واجتهاداتهم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وتتطوّر كلما تطاوَل عليها الزمان مُصَحّحة نفسها ومُرتقية لحال أفضل وأكثر دقة في وصف حقائقها وموضوعاتها. في حين أنّ الوحي يزيد فهمُ الناسُ له اضطرابا كلّما تطاول عليه الزمان، وكان ذلك أدعى لتشوّه مفاهيمه واستشكالها على الناس بين جامد أو جاحد أو محرِّف. فيكفينا نحن أهلَ الإسلام شرفا عدمُ احتوائه لتناقضات أو معيقات في العلم.
فحكمة الله تعالى في عدم القطع في المعاني هي عدم تعجيز الناس قبل توصُّل العلم إليها، حتى لا ينتُج عن ذلك قضيّة أخطر على الدّين من غياب الإعجاز العلمي فيه، وهي تلك "النخبوية الفكرية" التي أبى الله إلاّ اقتلاعها من جذورها وتسفيه أصحابها (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فأرادوا قرآنا خاصا بالنخبة المترفة وأعيانِ القوم وأشرافِهم!
على أنّ الإشارات في الوحيين قد تكون غير مقصودة لذاتها، بل مجرّد خطاب في سياق الكلام على شيء أهمّ، مثل آية "إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" هل هذا يدل على أن قول إبراهيم في مجيء الشمس (بمعنى دوران الشمس حول الأرض) هو المقصود؟ أم أن المقصود هو عجز مدّعي الألوهية عن فعل المِثل سواء أتت هي من المشرق أو من المغرب أو الأعلى أو كانت حركتها ناتجة عن دوران الأرض حول مركزها؟ فضْلا على أنّ القولَ قولُ نبيّ يُحاجّ ويناظر قومه بما كان سائدا ومعروفا و"مقبولا" أيضا حتى عند الأنبياء أنفسهم. ولم يكن الأنبياء ملزَمين بمعرفة الظاهرة العلمية للشروق والغروب بقدر معرفتهم أنّها من آيات الله تعالى وموجبات عبادته وحدَه. وإلاّ لكان الوحي سبيلا لجعل الأنبياء والرّسل منظّرين للعلوم! وهذا مما لا يقول به عاقل.
إضافة إلى أن الاختلاف في قضية الألوهية يُشكّل أرضية نزاع كبير جدا بما فيه الكفاية، فلماذا يُضاف عامل نزاع وتفرقة من قبيل الجدال حول حركة الشمس أو حركة الأرض لزعزعة الأفكار السائدة، في سياق قد يحمِل المخالفين على السّخرية وزيادة التعنّت والتكبّر عن القضية الأهم وهي التوحيد والعبادة! ليكون دليلا آخر على "تُهمة الجنون" الملْصقة بالأنبياء! فيُفتَن الناس ويتجرّأ السفهاء على الطّعن في حقائق العبودية استنادا لتلك الفكرة الجديدة الغريبة التي لا تُصدّقها عقولهم بالرغم من صحّتها على المستوى العلميّ.
ولعلّنا لا ننتبه لهذا الامر في سيرورة دعوة الأنبياء أقوامَهم لأننا نحكم على معارفهم العلمية القديمة من خلال معارفنا الحديثة. فتبدو لنا خطأ بالبداهة. وننسى أنّ العبرة باعتقادهم وتصورهِم هُم لا بتصور مستقبلي. ولنفهم ذلك ينبغي تخيّل مُصلِح يأتينا اليوم ويضرب مسلماتنا الفكرية والعلمية الحالية ويدعونا في الوقت نفسه لدين جديد. لا شك أنّ تسفيهه اعتمادا على مخالفتهِ السائدَ مِن الأفكار العلمية في "المعاهد العقلانية الراقية" سيكون مُستَمرأً وسهلا جدا علينا
ـ وهناك نقطة أخرى أشير إليها، وهي عدم إغفال أن العلمَ ليس إلا نموذجا "paradigm" يطغى على مرحلة معيّنة يكون فيها العلم عبارة عن قواعدٍ متعارفٍ عليها، لا تعكس بالضرورة "الحقيقة العلمية"، إلى أن يأتي حين ويَحِلّ البديل وتَصير حقيقةُ الأمس خرافةَ اليوم، وخرافةُ الأمس، حقيقةَ اليوم!
ـ وسؤالي هنا: إذا كان المسلم الباحث المهووس بالإعجاز العلمي، في زمن "الخرافة العلميّة" أو "الخطأ العلمي" كيف سيعرف أن ما يريد أن يربطه بالشرع "تعسّفا" هو حقيقةٌ علمية؟!
ـ ومن هذا المنطلق أيضا، سنتساءل بمنطقيّة لا نخشى فيها الخلل، حول من يطعن في الدين باسم العلم. نظرا لأنّه لم يجد "صيغة علمية واضحة" عِوض تلك الصيغة الوصفية التي لا تلتقي مع الحقائق العلمية أحيانا إلا في اللغة (مثل مصطلح القلب في القرآن والقلب في الطب، والعقل بين كلام العرب وبين العلوم العصبية، أو التداخل بين النفس والجهاز النفسيّ، والذرة بين القرآن والفيزياء...إلخ) ليَقع في الخطأ نفسه الذي يُنكره على المؤمنين. فقد انطلق كما انطلقوا من مُسلّمة "ضرورة وجود" إعجاز علميّ ولغة علميّة في القرآن! إلاّ أن المؤمن تكلّف على أساس هذه القاعدةِ "السبقَ المعرفيّ" للوحي. في حين تكلّف عدُوّ الدين، على أساس القاعدة نفسها، الطّعن في ضُعفِ المحتوى العلميّ للوحيْ بعد أنْ سلّم بضرورة أن الدين "لا بدّ له" بأن يكون كتابَ علم ومعارف!
** كان لزاما علينا بادئ ذي بدأ أن نعلم أن آيات القرآن لا تخرج "دائما" مخرج الإقرار والتسليم، بقدر ما تكون حكاية على الألسن، قد يُقرّها الله تعالى أحيانا بقرينة قد تكون خارجة عن الآية نفسها مثل: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} فأقر الله أن الأصنام عدوة لله وأنبيائه. أو يرفُضها أحيانا، {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أو يسكت عنها أحيانا أخرى خصوصا في القضايا العلمية لعدَم ترتّب أي شيء من الجزاء والمجازاة عليها، مثل آية مجيء الشمس، أو (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) نسبة لرؤية ذي القرنين، أو (قلوب لا يعقلون بها) وليس تقريرا لحقيقة علمية من الحكيم العليم.
ـ فلا بدّ بداية من تقسيم الكلام في القرآن والسنة إلى أقسام، لأن بعض أقسامه لا تصلح أن تكون دليلا على الإعجاز والإخبار المُعجز. لأنّها ببساطة مجرّد وصْف يراعي فهم الناس، فلا يُخاطَبون إلاّ بما يفهمون في زمانهم. ومن اعترض علينا في هذا فهو يُقرّ (ولا بدّ) أن أهل الصحراء في الجزيرة كانوا يعلمون حقائقا علميّة قبل اكتشافها!! مؤدّيا بنا إلى أمرين لا ثالثَ لهما:
ـ1- إمّا أنّ الله تعالى أنزل القرآن على شرْط استيعابه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فراعى فهمهم ومعرفتهم وثقافتهم، إذْ الغرض ليس التعجيز بل البيان، ويكون بذلك الجانب العلميّ على نفس القدر السائد آنذاك (ويجب التنبّه أن هذا لا يعني أن علم الله تعالى شبيه بعلم البشر، ولا أنّ الله تعالى قال في كتابه ما ساد من أوهام وخرافات آنذاك، تعالى الله وكتابه عن ذلك علوّا كبيرا. ولكن قصدي هنا أنّه سكت عن بعضها، أو وصف بعضها وصفا لا يتعارض مع فهمهم آنذاك، وفي الوقت نفسه لن يتعارض مع علم مستقبليّ)
ـ2- وإمّا أن نقول أنّ القرآن فيه من العلوم والحقائق التقنية الكثير، وبهذا يكون العرَبُ (حسب حكمة البيان) قد فهموا تلك الحقائق وعرفوا مرادها بما أنّ استيعابها شرط "مُتحقّق" فيهم بنصّ الآية. ونتيجةُ ذلك أنّ العرب والمسلمين قد عرفوا العلوم الحديثة قبل انبعاثها متعثّرة على مرّ القرون. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين هي آثار تلك العلوم والفهم "الاستباقيّ" لها؟!
ـ أيْضا يجب التنبُّه إلى أنَّ الإشارَات العلمية، لا تكون حسب اللغة العلمية، لذلك فهي ليست قطعية الدلالة ولم يُــرَد لها أن تكون كذلك، ولا يُمكن فهمُها إلا في حدود معرفة معيّنة. فكل زَمَان يتميّز "بسقْف إبستمولوجيّ" يَحكُم العقول والتصورات. فلن نجد مثلا في آية الأنفال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} مصطلحات علمية مثل "استراتيجية الهجرة" أو "الاستقلال الاقتصادي" "حريّة صنع القرار في المدينة" "الهيمنة العسكرية للأنصار" "الموقع الجيوستراتيجي ليثرب"... فهذه كلها مفاهيم تدرس في العلوم الانسانية والسياسية والعسكرية... فلماذا لم تظهر في الآية مع أن الوصف منطبق عليها؟! ثم لماذا ستشكّل العلوم الإنسانية استثناء في الإعجاز العلمي عكس نظيرتها العلوم الطبيعية؟
من هنا وجب علينا الاعتراف أنّ فهْم كلّ عصر للقرآن يكون حسب منتهى عقول أصحاب ذلك العصر (بدليل أنّ علماء القرون الوسطى كانوا يفسرون نفس الآية والحديث بما لا يُفسّره أحد الآن!)، ولا يضرّهم أن تغيب عنهم بعض الأمور العلميّة والتقنية أو جُلّها، لأن توضيح الشرائع والعقائد والمُعاملات هو القصد الأساسي للوحيْ، ولهذا كانت أوّل ما فُهم من القرآن والسنّة عكس القضايا العلمية الأخرى.
ولا عجب من هذا القول إذا تأمّلنا أنّ غاية ما يقدّمه الوحي في مجال العلوم، يبقى إشارات فقط، إشارات لا يُشترط فيها أن تكون كشْفا لعلوم لم تبلغها العقول البشرية. لأن دور الوحي ليس هو تعليم العلوم ولا إثباتها أو إنكارها، فمهمّته الأساسية هي توضيح أمور غيبية ليس لها مصدر إلا وحيْ الله سبحانه.
أمّا العلوم فإن مصدرها بشريّ، وتوكيلها للبشر واجتهاداتهم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وتتطوّر كلما تطاوَل عليها الزمان مُصَحّحة نفسها ومُرتقية لحال أفضل وأكثر دقة في وصف حقائقها وموضوعاتها. في حين أنّ الوحي يزيد فهمُ الناسُ له اضطرابا كلّما تطاول عليه الزمان، وكان ذلك أدعى لتشوّه مفاهيمه واستشكالها على الناس بين جامد أو جاحد أو محرِّف. فيكفينا نحن أهلَ الإسلام شرفا عدمُ احتوائه لتناقضات أو معيقات في العلم.
فحكمة الله تعالى في عدم القطع في المعاني هي عدم تعجيز الناس قبل توصُّل العلم إليها، حتى لا ينتُج عن ذلك قضيّة أخطر على الدّين من غياب الإعجاز العلمي فيه، وهي تلك "النخبوية الفكرية" التي أبى الله إلاّ اقتلاعها من جذورها وتسفيه أصحابها (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فأرادوا قرآنا خاصا بالنخبة المترفة وأعيانِ القوم وأشرافِهم!
على أنّ الإشارات في الوحيين قد تكون غير مقصودة لذاتها، بل مجرّد خطاب في سياق الكلام على شيء أهمّ، مثل آية "إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" هل هذا يدل على أن قول إبراهيم في مجيء الشمس (بمعنى دوران الشمس حول الأرض) هو المقصود؟ أم أن المقصود هو عجز مدّعي الألوهية عن فعل المِثل سواء أتت هي من المشرق أو من المغرب أو الأعلى أو كانت حركتها ناتجة عن دوران الأرض حول مركزها؟ فضْلا على أنّ القولَ قولُ نبيّ يُحاجّ ويناظر قومه بما كان سائدا ومعروفا و"مقبولا" أيضا حتى عند الأنبياء أنفسهم. ولم يكن الأنبياء ملزَمين بمعرفة الظاهرة العلمية للشروق والغروب بقدر معرفتهم أنّها من آيات الله تعالى وموجبات عبادته وحدَه. وإلاّ لكان الوحي سبيلا لجعل الأنبياء والرّسل منظّرين للعلوم! وهذا مما لا يقول به عاقل.
إضافة إلى أن الاختلاف في قضية الألوهية يُشكّل أرضية نزاع كبير جدا بما فيه الكفاية، فلماذا يُضاف عامل نزاع وتفرقة من قبيل الجدال حول حركة الشمس أو حركة الأرض لزعزعة الأفكار السائدة، في سياق قد يحمِل المخالفين على السّخرية وزيادة التعنّت والتكبّر عن القضية الأهم وهي التوحيد والعبادة! ليكون دليلا آخر على "تُهمة الجنون" الملْصقة بالأنبياء! فيُفتَن الناس ويتجرّأ السفهاء على الطّعن في حقائق العبودية استنادا لتلك الفكرة الجديدة الغريبة التي لا تُصدّقها عقولهم بالرغم من صحّتها على المستوى العلميّ.
ولعلّنا لا ننتبه لهذا الامر في سيرورة دعوة الأنبياء أقوامَهم لأننا نحكم على معارفهم العلمية القديمة من خلال معارفنا الحديثة. فتبدو لنا خطأ بالبداهة. وننسى أنّ العبرة باعتقادهم وتصورهِم هُم لا بتصور مستقبلي. ولنفهم ذلك ينبغي تخيّل مُصلِح يأتينا اليوم ويضرب مسلماتنا الفكرية والعلمية الحالية ويدعونا في الوقت نفسه لدين جديد. لا شك أنّ تسفيهه اعتمادا على مخالفتهِ السائدَ مِن الأفكار العلمية في "المعاهد العقلانية الراقية" سيكون مُستَمرأً وسهلا جدا علينا
ـ وهناك نقطة أخرى أشير إليها، وهي عدم إغفال أن العلمَ ليس إلا نموذجا "paradigm" يطغى على مرحلة معيّنة يكون فيها العلم عبارة عن قواعدٍ متعارفٍ عليها، لا تعكس بالضرورة "الحقيقة العلمية"، إلى أن يأتي حين ويَحِلّ البديل وتَصير حقيقةُ الأمس خرافةَ اليوم، وخرافةُ الأمس، حقيقةَ اليوم!
ـ وسؤالي هنا: إذا كان المسلم الباحث المهووس بالإعجاز العلمي، في زمن "الخرافة العلميّة" أو "الخطأ العلمي" كيف سيعرف أن ما يريد أن يربطه بالشرع "تعسّفا" هو حقيقةٌ علمية؟!
ـ ومن هذا المنطلق أيضا، سنتساءل بمنطقيّة لا نخشى فيها الخلل، حول من يطعن في الدين باسم العلم. نظرا لأنّه لم يجد "صيغة علمية واضحة" عِوض تلك الصيغة الوصفية التي لا تلتقي مع الحقائق العلمية أحيانا إلا في اللغة (مثل مصطلح القلب في القرآن والقلب في الطب، والعقل بين كلام العرب وبين العلوم العصبية، أو التداخل بين النفس والجهاز النفسيّ، والذرة بين القرآن والفيزياء...إلخ) ليَقع في الخطأ نفسه الذي يُنكره على المؤمنين. فقد انطلق كما انطلقوا من مُسلّمة "ضرورة وجود" إعجاز علميّ ولغة علميّة في القرآن! إلاّ أن المؤمن تكلّف على أساس هذه القاعدةِ "السبقَ المعرفيّ" للوحي. في حين تكلّف عدُوّ الدين، على أساس القاعدة نفسها، الطّعن في ضُعفِ المحتوى العلميّ للوحيْ بعد أنْ سلّم بضرورة أن الدين "لا بدّ له" بأن يكون كتابَ علم ومعارف!
ولو تخلّى عن هذه المسلّمة لمَا طالب بشيء لا يكون الدين مقبولا إلاّ به (أقصد المعارف العلمية)، حتّى إذا لم يجده نبَذَ الدّين جملة وتفصيلا! وفي الحقيقة كلاهما لم يعِ وظيفة الدين ولا حِكمةَ ومُرادَ منزِّله.
لذلك وجب التواضع لله العليّ، وتفويض الأمر له، وتجنّب إقامة سجال بين علوم البشر وبين الوحي وكأنّهما يبُتّان في الموضوع نفسه! وكي لا نكون كمن قال الله تعالى فيهم: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم) ذلك العلم البدائي الهزيل مقارنة بالعلوم المعاصرة، ومع ذلك كان عندهم إحساس وَاهم بالتفوّق على وَحْي المرسلين حَمَلهم على إنكار غيبياتٍ بعلمهم الماديّ! وإقحام منهجيةٍ وموضوعٍ في غير مكانهما. كما فعل بشكل أو آخر ذلك المؤمن الفرح بعلمه فألصق "المادّي بالغيبيّ تعسّفا" لدرجة لا يرضى فيها بحرف أو كلمة من القرآن خاليين من شكل من أشكال الإعجاز العلميّ!!
وكأنّ الكافر بالقرآن والمؤمن به على حدّ السواء جعلوا وظيفته غير وظيفته الأصلية!
بالمناسبة ما هي وظيفة القرآن الأصليّة؟ كيف أمكننا الخوض في موضوع الإعجاز دون الحديث عنها؟!
لذلك وجب التواضع لله العليّ، وتفويض الأمر له، وتجنّب إقامة سجال بين علوم البشر وبين الوحي وكأنّهما يبُتّان في الموضوع نفسه! وكي لا نكون كمن قال الله تعالى فيهم: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم) ذلك العلم البدائي الهزيل مقارنة بالعلوم المعاصرة، ومع ذلك كان عندهم إحساس وَاهم بالتفوّق على وَحْي المرسلين حَمَلهم على إنكار غيبياتٍ بعلمهم الماديّ! وإقحام منهجيةٍ وموضوعٍ في غير مكانهما. كما فعل بشكل أو آخر ذلك المؤمن الفرح بعلمه فألصق "المادّي بالغيبيّ تعسّفا" لدرجة لا يرضى فيها بحرف أو كلمة من القرآن خاليين من شكل من أشكال الإعجاز العلميّ!!
وكأنّ الكافر بالقرآن والمؤمن به على حدّ السواء جعلوا وظيفته غير وظيفته الأصلية!
بالمناسبة ما هي وظيفة القرآن الأصليّة؟ كيف أمكننا الخوض في موضوع الإعجاز دون الحديث عنها؟!
فتابعونا في المنشور القادم بحول الله...
حسن خالدي (بتصرف بسيط)
جميع أجزاء السلسلة:
الإعجاز العلمي تشريعات دقيقة أم علوم دقيقة...؟ (الجزء الأول)
وظيفة القرآن والوحيْ (الجزء الثاني)
وظيفة القرآن والوحيْ (الجزء الثالث)
الإعجاز العلمي... والمسارات الثلاث (الجزء الرابع)
جميع أجزاء السلسلة:
الإعجاز العلمي تشريعات دقيقة أم علوم دقيقة...؟ (الجزء الأول)
وظيفة القرآن والوحيْ (الجزء الثاني)
وظيفة القرآن والوحيْ (الجزء الثالث)
الإعجاز العلمي... والمسارات الثلاث (الجزء الرابع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق