الأربعاء، 1 أغسطس 2018

وظيفة القرآن والوحيْ (الجزء الثاني)


هذا المقال الثاني من بضع مقالات حول الإعجاز العلمي ومشاكله المنهجية: 



وفيه سأحاول التطرّق لقضية مهمة لها علاقة بالموضوع، وهي "وظيفة الوحي"،
ومن منطلقاتها سنعلم هل يصلح الوحي للتدليل به على أمور علميّة، أم أنّ وظيفته شيء آخر ينبغي استعماله فيه لا في غيره؟


- كلنا نعلم أن وظيفة الشيء هي القصد الذي صُنع من أجله، أو جُعل له، وعلى إثر ذلك "القصد" أو المقصد والغاية يُستعمل. فإن تم استعماله في غير ما صُنع له إما سيتأثر هو، أو سيؤثر بشكل سلبي على ما استُعمل فيه، وفي كلتا الحالتين يكون الضرر مؤكّدا.

هذا طبعا في الماديات والمبتكرات، إلا أن الأمر لا يختلف كثيرا عن الأفكار والمعتقدات والتنظيرات. فمناهج العلوم مثلا تختلف إن اختلف الموضوع، لتكون وصفية أحيانا وتجريبية أحيانا أخرى. الروايات الأدبية يكون قصدها فنيّ ذو بعد وجدانيّ أو لغويّ، ولا يصحّ الإبحار بها فوق أمواج العلوم والفلسفة والقضايا الاجتماعية، اللهم إلا أن تكون روايات فلسفية وعلمية أخذت طابعا أدبيا، فتكون وظيفتها علمية لا فنيّة. وكذلك الأفكار التي تخرج مخرج التحفيز لا يُمكنها أن تتخذ وظيفة علاجية، لأن وظيفتها الرئيسية تحفيز نفسيّة سليمة (موضوعها السواء وليس المرض) أما العلاج فذاك شيء آخر...
وهكذا كل "المجرّدات" لها وظائفها التي يجب أن تُحترم.

ولا شك أن "إقحام" هذه الأفكار أو المناهج في غير استعمالاتها السليمة، سيُنتج لنا العجب العُجاب، فقد نرى واعظا يثقل على المريض النفسي وهو يتوهم أن التذكير بالجنة والنار كافيان للشفاء، وما كان التكليف إلا بعد السلامة أصلا. أو باحثا في العلوم الإنسانية يريد تطبيق المنهج التجريبي بحذافيره دون النظر للاختلافات الجوهرية بين الإنسان وغيره من الموضوعات المدروسة.
 
وقد نسمع اعتراضات وانتقادات لأمور علمية أو عقديّة لا يملك صاحبها منطلقا إلا ما قرأه من الروايات الغرامية والسرياليّة يجابه بها أهل الاختصاص. أو نرى متمرّدات ومناصرات للأنثوية كاتجاه اجتماعي ليس لهم مادة سوى تغريدات الروائيات والرومانسيين من الشعراء والمغنين!...
 
ويمكنكم تخيّل الفوضى المعرفية التي لحِقت بنا بسبب هذا الخلط والاستعمال الخاطئ في كل المجالات، خصوصا الفكرية منها...

وحديثنا عن وظيفة الوحي الأساسية يحدو بنا لمعرفة إمكانية "تسلّل" هذه الفوضى لكتاب الله وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
 
وسأسرُد بعض الآيات وأنبّه على سياقها لنتأمل معا مُراد الله تعالى من تنزيله، مقتصرا على بعض آيِ القرآن فقط، نظرا لكون السُنّة امتدادا له في المقصد والمُراد.

على أنّ حديثي عن الوظيفة الأساسية لا ينفي وجود محفّزات للعمل والاجتهاد في المجالات التي لم يضطلع بها الوحي، وهذا يصبّ في الجانب الأخلاقي العملي "وقل اعملوا" لذلك فلا تعارض بين غياب محتوى علميّ في الوحي وبين تَحفِيز الإنسان على تحمّل عِبء تلك الأبحاث والعلوم وسعيه للمكتشفات.

وفيما يلي الآيات:

✴ قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} البقرة
فيه هدى لمن؟ للمتقين. وما هي صفات المتقين وما هو مجالهم؟
الآيات اللاحقة تجيبنا: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويتصدقون، ويؤمنون بالكتب...
أفي هذه الآيات إشارة إلى أن الهدى (أي الدليل والمنهج والإرشاد) يُعنى حتى بمجال العلوم والمهتمين بها؟ لا طبعا

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} طه
قد ذكر الله فيه الوعيد، ومَناط ُذلك أمرٌ ونهيٌ في شؤون تعبّدية، ولا علاقة للوعيد بأمور علميّة إذ لا يتوعّد الله البشر بسبب جهلهم بقوانين طبيعية! إذن جلّ أهل الأرض!
وهذه الآية والتي تليها، توضّح أنّ القصد من الوحيْ امتثال العباد لربّهم والخوف من عقابه والرغبة في جزائه.

{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} فُصّلت
فُصِّلت آياتُه لقـوْم يعلمون ذلك التفصيل، بشيرا ونذيرا، فأعرضوا بعد أن علموا موضوعه وعقَلوا ما فصّل فيه الوحي. فكان إعراضهم لا عن عدم فهم، بل لرفضهم الاستماع إلى دعوة ربّهم.
فإن كان الإعجاز العلمي مما فُصّل فيه كما يقول المؤيّدون له، فلا بدّ أنّ القرآن فصّله حتى يعلمه العرب القدامى ثم أعرضوا عنه! فهل العرب كانوا يفهمون ما نفهه الآن من العلوم؟ الإجابة واضحة...
فلا يبقى إلا أن نقول أن التفصيل لا يعني به الله العلوم بل القضايا التكليفية بدليل "البشارة والإنذار".
 
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} الزمر
الإسلام نور من الله، ثم ذكر أن من ضلّ عنه "قاسٍ قلبُه" من عبادة ربه وطاعته والإنابة له... ولم يربط الله تعالى الضلال بالقضايا الفكرية، بل ربطه بقسوة القلب وتكبّره عن خالقه... ولو كان الإسلام ككلّ ومصادرُ تشريعه، نورٌ وهدايةٌ من ضلال الجهل بالعلوم لقدّم إشارة تخصّ الجانب العلميّ عِوض "قسوة القلوب" التي لها علاقة بالتكبّر والإيمان والتصديق والامتثال.

** نأتي إلى الوظيفة المسْنَدة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام بتحمّله الرسالة والوحيْ:
✴ { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ.... (105)} النساء.
نزل القرآن ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس بالحقّ بما أراه الله تعالى في شؤون العبادة والعباد... فهل حكم النبيّ بالحقّ المُتنازع فيه في أمور علميّة وسجالات فكرية في مجالس الفلاسفة والأطباء والخبراء؟!!

ومثلها: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...(26)} الحديد
ليعدلوا بين الناس في أمور تخص خالقهم بالإخلاص له وعبادته وحده، ووصفه بما يليق به، وأمور تخص شؤون الناس من أحكام ومعاملات.

{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} يس.

هذه الآية لنا معها وقفة خاصّة، فقد نزّه اللهِ نبيّه عن الشعر مع أن الشعر كان من الفنون المعظّمة عند العرَب وله أثر بالغ عليهم ذمّا أو مدحا. ومع ذلك لم يأت بشيء منه ليتقرّب إلى قومه ويُقارعهم فيه، حتى يَصْفو القُرآن من أي شائبة "أدبية" وخبرة بشريّة، وأبْدله الله خيرا منه بيانا وبلاغة... من أجل ماذا؟ لينذر من كان حيّا.
فانظروا كيف امتنع في حقّه الشعر وكان ذلك أقرب مودّة لقومه، (الشيء نفسه في امتناع الثروة والقيادة في حقه والتي تمنّاها قومه في رسولهم) كَمَا امتنَعتْ في حقّه العلوم والتقنيات وكان ذلك أكثر إقناعا لأمم ستصِلها الرسالة في عصور يكون فيها العلم والتقنية مهيمنان على كل شيء!

ربما سيقول قائل أن غياب الجانب العلميّ شبيه بحكمة كونه أمّيا صلى الله عليه وسلم.
أقول جميل ونتّفق على هذا، ولكن ألَم يُبْدِله الله تعالى خيرا من الشِّعر وخيرا من التعلم وهو الوحيْ! الجواب: بلى.
طيّب، لماذا لم يُبدِله شيئا في باب العلوم واضحا جليّا بعد أن جهلها النبيّ صلى الله عليه وسلّم وقومُه لتكون حجّة على تأييد صانع الكون له؟
وبهذا نتساءل كيف نجد "التعويض الربّاني" بخصوص أميّة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم براعته في الشعر مقصدا ربّانيا ليُلجم به العرب وكل الناس. ولاَ نَجِد تعويضا مماثلا له في باب العلوم والتقنيات يَسْحقُ كل ما ساد منها وكلّ ما سيأتي منها كما تحدّى بالقرآن كلّ محاولة لتأليفِ مثلِه؟!

بمعنى آخر قد أبى الله تعالى أن يجعل لنبيّه حظّا مما يحبّه العرب وهو الشعر ومما يحبّه أهل الكتاب وهو علومهم ومناهجهم، وعوّضه الله خيرا من ذلك لإقامة الحجّة عليهم. كما أبى أن يجعل لنبيّه حظا من العلوم والتقنيّات ليكون أكثر قُربا وإقناعا لأقوام لاحقة تُعظِّم العلوم، وتكون له مَكانة في مَسار العلوم ورُوّادها الذين يهُش لهُم العالم الغربي اليوم!

أي أنّ اللــــــــه تعالى لم "يُلاطف" عصور التقنية والاختراعات بتقديم المعادلات والمكتشفات والنظريات العلمية كي يرضوا به ربّا ويقبلوا بدينه وعبادته وهو القادر على ذلك سبحانه...! كما لم يُلاطف مشركي مكّة بجعل الرسول مَلاَكا، أو جعله ذا قصور وأنهار، أو إبهارهم بالمعجزات والخوارق، وهو القـــادر على ذلك!
 
فكيف نقبل بهذا ونتلوه في القرآن تعبّدا ونؤمن به، ثم نأتي ونقول، في مفارقة عجيبة، أنّ القرآن خبّأ للعالم بأسره "إعجازا علميّا" مما يُهِمّ إنسان هذا الزمان، وغايتُه من نفسِ غاية ما طالب به مشركوا العرب على قدر عقولهم وبيئتهم وما يُشكّل أهميّة عندهم (الأنهار والزروع نظرا لجدب مكّة، والقصور والذهب والفضة)؟!

ربما يُصرّ البعض أن الإعجاز العلميّ يبحث في هذه القضية بالذات. ليُقنع الناس بأن هناك فِعْلا "تعويضا ربانيّا" في باب العلوم في ديننا.
فأقول الأمر كان واضحا وُضُوح الشمس إذا قابلنا شعر العرب وعلوم أهل الكتاب بما نزل من الوحيْ، بعيدا عن التشفير والغموض. فلماذا لم يكن واضحا مبيَّنا في باب العلوم؟

وتأمّلوا جيّدا هذه النقطة والتي تُذكّرنا بآية يقول فيها النبيّ البشريّ عليه الصلاة والسلام:

{قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ، مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)} الأنعام.
 
فلو كان عنده ما يستعجلون به من العذاب لكانت طبيعة البشر في الحسم ميّالة للإتيان بالتحدّي. ولَكِنْ حِكْمَة الله تعالى اقتضت غير ذلك.
وقد نقولها نحن أيضا، لو كان ما يتحدّانا به الغرب بأيدينا لحسمنا الأمر وأخرجنا لهم كل شيء من المعجزات ودقائق العلوم والأهوال والخوارق حتى نحطّم كبرياءهم ونتقرّب إليهم بما يحبّون!

وتأمّلوا قول رسول الله: {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ، مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}
فعدم امتلاكه وقدرته على الإتيان بما يستعجلون به من العذاب (وفي سياقنا من الإعجاز والإبهار والعلوم والتقنيات) لم يمنعه أن يقول بكل ثقة وصِدق أنّه "على بيّنة من ربّه"!

ووجود البيّنة مع غياب القدرة بالإتيان على المعجزات أو التقرّب إلى الكفار بما يحبون من أموال وجنات وقصور كما طالبوا، (أو العلوم والمكتشفات والمعادلات الرياضية كما طالب كفّار اليوم وتوهّم معظم المسلمين) لَدليل ساطِع على أنّ البيّنة المقصودة كانت في مجال آخر، وألزمت الناس من جهة الاعتقادات والعبادات والتشريعات. ولو كانت البيّنة في الإعجاز والإبهار فضلا عن علوم مستقبلية دقيقة ومتفرّعة لسقطت وظيفة البيان بغياب هذا الشّرط.

- وماذا عن "(لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42 )"؟ هذه الحجّة للأحياء تقتضي أن يكون الخطاب موجّها لهم مفهوما لعقولهم غير "إعجازيّ" لهم على مستوى الفهم، وإن كان معجزا لهم على مستوى الإتيان بمثله.

ولكن إن سلّمنا بوجود إعجازٍ علميّ ظهر في عصور متأخّرة، هل سيكون الخطاب لمن حي (في زمن النبيّ الكريم وما بعده قبل ثورة العلوم) أم لأموات لم يأت زمانهم بعدُ (بعد الثورة العلمية)؟!
سيُقال أنّ القرآن بقي من بعد النبي صلى الله عليه وسلّم يُنذِر من قرأه ويكونُ كلّ من وصلَه القرآن قد عرف بيّنته في حياته أو مات وهو منكر لها.
أقول صحيح، ولكن هذا لا يعني أن تُستثنى قرون من أجل "سواد عيون" بشر في قرون يتقدم فيها العلم وهي أقصر زمنا من القرون السابقة! فيتناقض القرآن مع نفسه إذْ لم "بيّنة" لمن حيي في أزمنة ممتدّة حتى جاءت أزمنة العلم والتقنية. بأيّ شيء إذن عزّ إنسان التقنية وتجاوز قيمة غيره عند خالقه؟!
بل غاية ما في ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنذر قومه بكُل مُقوّمات التكليف فيهم، من وعي للخطاب الديني واستيعاب لكلام الله تعالى وقدرة على إدراك معناه ودلالاته.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} المائدة
ما الذي كان يخفيه أهل الكتاب ويختلفون حوله فبيّنه النبي لهم؟ علوم وتقنيات أو أمور عقدية تعبّدية وأخبار محرّفة؟ وإن كانت علوما وتقنيات، فكلّنا آذان صاغية لدلائلها.
وأعقب الله ذكرَ هذه الخلافات بقوله "قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين" بمعنى أنه نور يهدي في ظُلُمات الخلافات الدينيّة لأن خِلافَات أهْل الكِتاب التي قُصدت كانت من تلك الطبيعة.

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} النحل.
قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة بعض الذي اختلفوا فيه وحرّفوه مثل قصة إسماعيل، والأطعمة المحرمة، و"رفع المسيح عليه السلام" وتبرئة مريم عليها السلام، ونزع الخيرية منهم بعد أن بدّلوا، وحسدِهم بسبب خروج الرسالة في بني إسماعيل، وقصص الأنبياء السابقة... ليكون هداية ورحمة للمؤمنين...
وهنا نتساءل أين توضيح النبي صلى الله عليه وسلم لقضايا كانت المجتمعات النصرانية واليهودية والوثنيّة على حدّ السواء تخوض فيها (يَسهُل ملاحظة هذا في كُتب تاريخ العلوم والنظريات الفلسفية) مثل أصل الوجود ومادة العالم ومركزية الأرض والشمس، ونظرية الأخلاط البدائية وتعقيد العلوم العصبية، وأسباب الأمراض من مكروبات وفيروسات، والخرافات المتعلقة بجسد الإنسان وخلق الجنين...

مع أن الله تعالى ذكَر تكذيب الأقوام السابقة الغابرة وتحدّيهم لأنبيائهم، حتى أنّه سبحانه قال: "يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ" يعني يشابهون بقولهم هذا قول الحضارات الوثنية التي جعلت لله الولد وأسقطت صفاتا بشريّة على خالقها. وحدّثنا عن قصة أخ قتل أخاه للعبرة الأخلاقية. وروى لنا قصص التكذيب والاستكبار والمعاندة عند أقوام في زمن سحيق مثل قوم نوح...
 
فتركيز القرآن على معتقدِ حضارات غابرة مع تغافله عن معتقداتٍ أحدث منها في باب العلوم دليل على أنّ التقصّي إنما كان للأمور العقائدية والتعبديّة وأنّ الخَوْضَ فيها كان مقصودا دون غيره لهداية البشر للصّحيح منها ومن التصورات الخاصة بالإله والدين.

(يُتْبَع...)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: