اقتباس من كتاب: الخلافات السياسية بين الصحابة بقلم محمد المختار الشنقيطي
لقد درج كثير من علماء المسلمين، في الماضي والحاضر، على الكتابة عن حياة الصحابة وتاريخ السلف بمنهج سرد المناقب والفضائل فقط، محكومين بالجدل مع القادحين في الصحابة رضي الله عنهم، والذي لم يعترفوا لهم بفضل السبق. ورغم فائدة هذا المنهج في استنهاض الهمم الراكدة، وفي الدر على الطوائف المعاندة، إلا أنه يشتمل على جوانب قصور منهجية، أهمها أنه يسلخ حياة الصحابة والسلف الأول من طبيعتها البشرية: طبيعة الصراع بين المثَل والواقع، والمعاناة النفسية في سبيل الارتفاع إلى مستوى المبدإ، ومظاهر السقوط والنهوض, والذنب والتوبة، والغفلة والإنابة.. وهذا هو جوهر التجربة المؤمنة في كل عصر، فإذا فقدها التاريخ استحال من تاريخ حي نابض، إلى تاريخ جامد مقدس، يثير الحماس لكنه لا يمنح الخبرة، يحرك الهمة لكنه لا يقدم العبرة ]...[..
ولم يكن هذا نهج القرآن الكريم في عرض قصص الأولين، وحياة السالفين. فحتى حينما تحدث القرآن الكريم عن الأنبياء المعصومين بالحوي المستدرِك، قدم الصورة مكتملة، متضمنة نقاط القوة والضعف، حتى يستوعب المتدبر العبرة، ويظل التاريخ تاريخ بشر من لحم ودم، لا تاريخ ملائكة جبلوا على الطاعة دون جهد ومعاناة. واقرأ قول الله عز وجل عن آدم عليه السلام: (وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ) وعن نوح عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) وعن داود عليه السلام: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) وعن سليمان عليه السلام: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) وعن يوسف عليه السلام: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا) وعن موسى عليه السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ) ثم أخيرا عن محمد صلى الله عليه وسلم ]...[: (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ) (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ).
وهذا المنهج القرآني هو الذي يجعل الصورة مكتملة، والحجة قائمة، وإلا فما لنا وللاقتداء ببشر تجردوا من صفة البشرية؟! إن الخالق الحكيم العدل لم يكلفنا بذلك، ولذلك بعث إلينا بشرا رسولا، لا ملَكا رسولا ]…[
وخلاصة العبرة من هذا المنهج القرآني أن دراسة تاريخ الأولين –صحابة أو غير صحابة- ينبغي أن تحرص على تقديم الصورة كاملة، بجوانبها المضيئة والقاتمة، فلا يوجد تاريخ كله مناقب أو مثالب، والعبرة من الخطإ والتقصير تساوي العبرة من الصواب والنهوض، بل قد تفوقها أحيانا. وفي حياة كل المؤمنين عبرة، سواء من كان منهم ظالما لنفسه، أو مقتصدا، أو سابقا بالخيرات بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق