الاثنين، 6 أغسطس 2018

من نقدم على من العقل أم النقل؟ ولماذا؟

"حاكمية العقل على النقل الصحيح أو العكس"

أليس العقل هو من توصل لصحة النقل؟؟ ومن خلاله عرفنا صحة القرآن؟ حسنا، إذا شعرنا بوجود ثمة عدم توافق بين معنى آية ومعنى عقلاني فإلى أي المعنيين ننحاز؟؟

قبل أن أسترسل بشرح صلب المقال سأحكي تأملات بمطلع سورة الفرقان وأثارتني الآيات فتأملتها وأضعها لكم لتأملها:

( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) [سورة الفرقان 1 - 3]

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان.. القرآن ليس نابعا من العقول البشرية بل هو نازل من ذات خارجية عالمة (الله في السماء جل جلاله) ، وكلمة (نزل) توحي بالعلو، والعلو يوحي بشمولية العلم (كلمت نَزَّلَ خيلت إلي بعلوها اتساع الرؤية.. نحن كبشر رؤيتنا للعالم من الطائرة مثلا شمولية أكثر من رؤيتنا الجزئية من مكاننا فهي تكاد تشبه رؤيتنا من ثقب مفتاح الباب إذا ما قارناها بالطائرة، أما الله فهو خارج الزمان والمكان جل في علاه ورؤيته غير محصورة كرؤيتنا الضيقة) أعني أننا كبشر لسنا نحيط علما لا بالكون ولا بالنفس البشرية ولا بما حصل في كل العالم سابقا ولا بما سيحصل لاحقا. وبطبيعة الحال عدم اتصافنا بالعلو يزيد حصر مقدار عمق تفكير عقولنا لضيق رؤيتنا. إذن رؤيتنا ومحدوديتنا لا تسمح بمنهج شمولي فيجب أن يكون الكتاب الذي نسترشد به ليس نابعا من رؤيتنا (بل من طرف خارجي أعلى وأعلم).

لهذا الفرقان ليس من عندنا، بل [[نزل]]: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.
 
أما حال المُنزل فتصفه الآية التي تليها: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.

نعم إنها ذات خارجية تملكنا وتملك عقولنا وتملك السماوات والأرض وليس لها مستشارين مثلنا ولا أملاكها شركة مع أحد آخر، ذات ليست فانية لذا لم تتخذ ولدا وهي لا تتصف بالقدرة على الخلق فحسب! كلا ، بل الخلق بعلم وتقدير وإتقان: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.

إن هذا طرح عقلاني يدعو لإعمال العقل كونه فيه إمعان عقلي بصفات الخالق وليس مثل من يعبد حجرا، ومع هذا فيه إدراك لقيمة العقل ومكانته ومحدوديته وقصوره.

ثم.. قد يُجرب العقل أن يتمرد.. أن يقول: أنا أستطيع.. أنا أعلم وأقدر.. يجرب أن يدعي أنه أيضا إله.. وله حق التشريع، ثم يقرأ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا

من أنت أيها العقل لتحكم نفسك إلهً؟؟ أخلقت الشمس والقمر؟ أم خلقت نفسك؟ أتملك لنفسك غنى لا فقر بعده وصحة لا مرض بعدها وحياة لا موت بعده؟؟ 

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)

خلاصة ما سبق: العقل يتوصل إلى أن هناك من هو أجدر منه بالحكم النهائي فيسلم له ويعلم أن التسليم قرار عقلاني.

[قبل أن أسترسل بالشرح أوضح أن هذا ليس تفسيرا للآيات بل "تأمل في ظلال المعاني" فمثلا الآيات لم تقل (واتخذوا عقولهم آلهة) بل قالت (واتخذوا من دونه آلهة) لتشمل كل ما نتخذه آلهة ونعطيه حق التشريع ولعل من ضمنه العقول.]

ابن تيمية في كتبه يشبه منزلة العقل من التشريع فيمثل بقصة شخصٍ يعلم عن مفتي عالم يعرف علمه ويدل عليه غيره. والشخص هذا إن سلم للعالم بفتوى فهذا لعلمه أن العالم أعلم منه بها.

هذا الشخص هو بمثابة العقل، فهو يدرك العلوم، ويدرك أن هناك من هو أعلم منه، والعالم كناية عن الشرع، فصحيح أننا عرفنا صحة الشرع بالعقل ولكن بذات الوقت تقر عقولنا بأسبقية وشمولية علم الوحي على العقل وأنه منزل من عند من هو أعلم منا.
إلا أن العالم المفتي قد يُخطئ ولكن الله منزه عن الخطأ تمام التنزه لذا يُذعن العقل له تمام الإذعان منزها إياه عن الخطأ.

بناء على ما سبق فليس من اللازم عقلنة كل جزئيات العبادة، فنحن لا نعرف عقليا لم نطوف حول الكعبة سبعا ولم نصلي الظهر أربعا بل نسلم طائعين للوحي حتى لو لم نعرف العلة عقلا، ويحضرني قول عمر رضي الله عنه إذ قال للحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك، ما قبلتك"
 
 
والخلاصة قصور العقل يقتضي منه التسليم التام للوحي سواء أدرك حكمته أم لم يدرك.

 
يبقى السؤال: إذا ظهر ثمة تعارض فهل نسلم للعقل أم النقل؟؟؟

في مقال سابق شرحنا أنهما لا يتعارضان وأننا نسلم للقطعي منهما وفي المقال السابق ركزنا أكثر على تعارض العقل أو العلم مع الحديث وهو بالطبع أقل قطعية من القرآن.
راجع المقال: (تعارض القطعيات كالعلوم والدين والعقل والدين)

هنا في هذا المقال نركز أكثر على تعارض العقل مع قطعي الثبوت (القرآن) وهنا مع سؤال تعارض العقل والنقل لا بد من الانتباه لنقطتين جوهريتين:

1-لا بد أن نفرق بين العقل الصريح والعقل الكسبي، فالعقل الصريح مستحيل أن يتناقض مع الوحي، فالله لم يخلق لنا عقولا ويأمرنا بإعمالها ولا ينزل لنا وحيا بخلاف ما نعقل! كيف والله قال عن الوحي أنه لأولي العقول؟ (هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [سورة غافر 54]

إذن العقل الصريح لا يتناقض ضرورة مع النقل الصحيح، وإنما قد يُتوهم التعارض مع العقل الكسبي ففيه قدر من النسبية ويختلف من شخص لآخر، فالعقل هذا يستحسن ما يستقبحه عقل آخر والعكس كذلك. والفرق بين العقل الأول والثاني أن الأول لا يختلف من شخص لآخر، فلا يوجد عقلان إلا ويتفقا على أن (1+1=2) لكنهما يختلفان مثلا بمسألة هل تربية الأطفال بالمكافآت ستشجع الطفل على السلوك الحسن أم ستعلم الطفل أن لا يعطي إلا بمكافأة ومقابل.
العقل الثاني هو نتاج عوامل فكرية كثيرة ولا نركن إليه ركونا تاما ويختلف من زمان لآخر ومن مكان لآخر وقد يتأثر بالأهواء والمصالح أو النزعات.

2- التفريق بين النص القطعي الدلالة والنص الظني الدلالة، ومثال ذلك قول الله مثلا: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) [سورة الكهف 86]

فدلالة النص أن الشمس تغرب في بركة الماء ليست قطعية الدلالة، بل تُفسر الآية أنها بالنسبة للرائي تنزل في الماء وهو معنى جائز لغويا وسليم فالعرب تقول مثلا: غاب القمر وراء الجبل، مع أنهم يعرفون أن القمر لم يتخفى خلف الجبل، بل هذا المعنى بالنسبة للرائي.. ولغويا يجوز أن نقول أن الشمس تشرق أو تغرب مع أننا نعرف أن الشمس لم تشرق بل الأرض هي التي تدور حول الشمس، ولكن لغويا يسعنا أن نقول أن الشمس أشرقت أو غربت.

أعني أن دلالة العلم على عدم غروب الشمس في الماء قطعية ودلالة النص هنا ظنية لذا يجوز لنا أن نفهم النص فهما لا يتعارض مع القطعيات مثل العقل والعلم التجريبي وبذات الوقت يكون الفهم سليما لغويا.

وعلينا أيضا أن نستفيد بالقرائن.. بمعنى ان مثلا قول الله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)

قد يأتي من يقول أن الإنسان غير مخير بل مجبر على أفعاله وهو أذنب بفعل مشيئة الله لا بمحض إرادته.

وفي الحقيقة هذا المعنى "قد" يحمله ظاهر الآية إذا لم نأخذها مع بقية الآيات ولكننا عرفنا خطأه ونرد عليه بقول الله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ ) [سورة اﻷنعام 148]

إذن من الآية هذه نعرف أن عزو أفعال الإنسان لمشيئة الله كذب كما سمته الآية، فنحن نفهم الآية في ظل الآيات الأخرى والتي جعلتنا نرجح معنى على آخر، ولا نستخرج معنى يناقض بقية القرآن.

نقطة مهمة أيضا وهي رد الظني الدلالة إلى القطعي الدلالة.. هناك معان قطعية في القرآن وربما متواترة في السنة فالآيات الظنية نحاول ردها إلى القطعي وهكذا..
وهكذا نجمع دلائل العقل كلها ودلائل النقل كلها ونحاول أن نرجح بما يتوفر لنا من أدلة حتى نصل لرأي نستريح له. لكن أعتقد مع هذا تبقى مسافة سنختلف فيها (لزوم الشجارات!).



خلاصة المقال:

* العقل القطعي لا يتعارض مع النص القطعي وإنما قد يتعارض مع الدلالة الظنية.

* أن نعرف مكانة العقل فلا نعطيه فوق حجمه ولا دون.

* الله يأمرنا بإعمال عقولنا وينهانا عن التقليد الأعمى في الاعتقادات ويأمرنا بالتدبر والنظر في كثير من الآيات (وإن كنت لم أسردها في هذا المقال إلا أنها كثيرة في كتاب الله) ولكن بذات الوقت الله يريد العقل عبدا لخالقه (وعبودية العقل للعادات والتقاليد ولرجال الدين وللآباء قدح بالعقل ولكن عبوديته لله هي عين التعقل لكون معرفة العقل بأن الله أعلم وأعظم وأعلى وأنه الخالق والعقل مخلوق

___
مراجع: محاضرة منهج الاستدلال عند أهل السنة لعبد الله العجيري.

طالع أيضا:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: