إن نموذج معادات اليهود بسقوطه في التعميم الاختزالي يشكل فشلا أخلاقيا، فهو لا يحاول التمييز بين الطيب والخبيث، فالآخر هو الشر متجسدًا، بغض النظر عن سلوك بعض أفراده. وهذا تزييف للحقيقة وادعاء بالباطل، وغرق في العنصرية التي تنمط كل البشر مسبقًا، وخرق لكل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية.
ولكن الأدهى والأمر، أن هذا النموذج لا يفيد كثيرًا من الناحية العملية. فابتداءً يرى أصحابه أن الصهيونية، ومن ثم عداءنا لإسرائيل، مصدره نزعة اليهود الشيطانية، واستنادًا إلى هذه الرؤية المخيفة، قد ينجح نموذج المؤامرة في مراحله الأولى في تخويف الجماهير وتوليد العداء لللعدو الصهيوني، بل وفي تجنيدها ضده. ولكنه بعد قليل سيجابه الحقيقة المرة وهي أن الناس قد يصدقون ما يبشر به هو نفسه، وهو أن اليهود شياطين، قوة لا تقهر (مثل جيش الدفاع الإسرائيلي). وأنهم يحكمون العالم، وأن أيديهم الخفية موجودة حقا في كل مكان، ومن ذا الذي يريد التصدي لقوة هائلة مثل هذه تشبه القضاء والقدر، وتحكم العالم بأسره وتمتد أيديها الخفية في كل مكان؟
إن هذه الرؤية تحول اليهود إلى عباقرة وشياطين، أي قوة عجائبية.
فأما إن كانوا شياطين فنحن لا نملك إلا الاستعاذة بالله أو الفرار أو الاستسلام، وأما إن كانوا شعبا من العباقرة، يدهم الخفية متحكمة في العلام بأسره، فبطبيعة الحال لا قِبَل لنا بالحرب ضدهم، فهذا، يقينًا، فوق طاقة البشر، أليس كذلك؟
وبذا يكون نموذج العداء لليهود تعبيرا عن فكر السلبية والاستسلام والهزيمة الذي يخرج بعدونا من سياق ما هو إنساني وتاريخي وزمني، ويجعل منه كائنا يضرب بجذوره في أسباب مفارقة للتاريخ والفعل التاريخي، ويقذف بنا في خندق مظلم.
ويخيل لي أن إدمان بعض العرب لهذا النموذج هو محاولة غير واعية منهم لأن يستعيدوا شيئا من التوازن النفسي أمام عدو استولى على أرضنا ثم ألحق بنا الهزائم، ونحن ننسب له قوة خارقة، حتى يتم تسيوغ الهزيمة، لأنه لو كان عاديّا يمكن إلحاق الهزيمة به، فسيظهر ضعفنا وهواننا أمام أنفسنا.
]...[
ويتصور البعض أن "أنسنة" اليهود تعني "تبرئة ساحتهم" والتعاطف معهم (كما يقولون). وفي هذا خلل ما بعده خلل.
أما بخصوص تبرئة ساحتهم، فهذا يفترض أن الصراع عبارة عن مرافعات، وأننا نحاكم الصهاينة لا نقاتلهم، وهو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة.
أما التعاطف مع اليهود فهذا ناجم عن سوء فهم لمصطلح "أنسنة"، فقد جاء في الذكر الحكيم (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 104).
ولعل ما قاله مارك توين عن اليهود يلخص موقفي وبدقة بالغة:
Jews are members of the human race, worse than that I cannot say of them:
اليهود بشر، ولا يمكنني أن أقول ما هو أسوأ من ذلك عنهم.
فالاستعمار ظاهرة إنسانية، والعنصرية ظاهرة إنسانية، والاستغلال هو الآخر ظاهرة إنسانية، والشر ظاهر إنسانية،
بمعنى أنها كلها ظواهر من صميم وجودنا الإنساني، ولذا يمكن رصدها وتفسير معظم جوانبها.
التفسير والفهم يختلفان عن التعاطف والتقبل، وهما ضروريان للتعامل مع الواقع وتغييره، أي أن الاجتهاد ضروري للجهاد، بدون الاجتهاد يصبح الجهاد انتحارًا لأنه سيعني أننا نقذف بأنفسنا في نيران عجائية غامضة دون سابق معرفة.
المسيري (في كتاب رحلتي الفكرية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق