ونموذج المؤامرة شائع في الخطاب الإسلامي المناهض لإسرائيل. وهو يفترض وجود "استمرارية" بين يهود الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا هو جوهر الرؤية الصهيونية. في إحدى المحاضرات، قام أحد حملة هذا الخطاب وبين لي أن "اليهود هم قتلة الأنبياء". فأخبرته أن المستوطنين الصهاينة لا يقتلون الأنبياء، لسبب بسيط وهو أنه لا يوجد أنبياء هذه الأيام، كما أنهم يقومون بقتل كل من يتصدى لهم دون تمييز بين مسلم ومسيحي.
وكنت مرة أجلس مع بعض صناع القرار في العالم العربي (من ذوي الاتجاهات الإسلامية) وتطرق الحديث إلى "اليهود"، وبدأ بعضهم في عملية السب نفسها (التي هي في جوهرها عملية شيطنة للآخر، لتحقيق بعض التوازن للذات). وتطرق الحديث إلى يهود المدينة وخيبر "وتأمرهم"... إلخ. وكيف أن نفس التأمر اليهودي مستمر. فسألتهم: هل كان هؤلاء اليهود يعرفون التلمود؟ وبأي لغة كانوا يتعبدون؟ وما معنى أن بني قريظة وبني النضير من الموهانيم (أي الكهنة من نسل هارون)، مع أن نظام الكهنوت اختفى في اليهودية بعد سقوط الهيكل في 70 ميلادية؟ ثم أضفت سؤالا عن موقف يهود العالم آنذاك من يهود المدينة؟ وهل كانوا على صلة بهم أو لا؟ وهل كانوا يعترفون بهم يهودا؟ وهذا يثير قضية: هل مصطلح "يهودي" في القرآن يشير إلى يهود المدينة، أو إلى يهود العالم المعاصرين للبعثة المحمدية أو ليهود العالم في الماضي والحاضر والمستقبل؟ أي أنني أثرت تساؤلات بخصوص الاستمرارية التي يفترضونها.
ثم تساءلت هل المسلم ملزم بالتعريف الإسلام لليهودي (من أهل الكتاب، يؤمن بكتاب مقدس ومن ثم بالله وباليوم الآخر) أو بالتعريف اليهودي (من يؤمن باليهودية ومن ولد لأم يهودية)؟ والسؤال طبعا خطابي، فالمسلم ملزم بالتعريف الإسلامي وحده، ومن ثم فالغالبية الساحقة ليهود العالم لا ينطبق عليها التعريف الإسلامي لليهود!
]...[
وأخيرا أكدت على مفهوم الفطرة الإسلامي وأن الإنسان يولد على الفطرة الإنسانية، بكل ما فيها من خير وشر، وأن أبويه يهودانه أو ينصرانه، ومن ثم فمفهوم الهوية كنتاج للوراثة غير معروف في الإسلام، وحينما يتبناه التآمريون فإنهم يتبعون مفهوما غير إسلامي. فمن منظور إسلامي، لا يمكن أن يؤخذ يهود هذه الآيام بجريرة يهود الماضي، فالخطيئة مثل الاستقامة لا تورث. ولهذا نجد أن الخطاب القرآني لا يتحدث عن اليهود في عموميتهم وإنما دائما يخصص ("ومن أهل الكتاب...").
]...[
ثم طرحت اجتهادي الأولي (والذي وافقني عليه كثير من الفقهاء) وهو أن مصطلحات مثل "يهودي" و"بني إسرائيل" تشير إلى شخص تتوفر فيه بعض السمات التي إن توافرت في أي شخص (ملحدا كان أو بوذيا) فإنه يصبح يهوديا (ولفظة "يهودي" بهذا المعنى لا تختلف في استعماليها عن لفظة "فرعون"، والتي لا تعني "حاكم مصر" وإنما أي شخص تتوفر فيه صفات "الفرعنة"). وعلى كل هذا اجتهاد أولي أطرحه كتساؤل على الفقهاء، حتى يفتح باب الاجتهاد مرة أخرى بخصوص هذه القضية ]...[
عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق