الأربعاء، 16 أغسطس 2023

أهمية تفعيل الحس الأخلاقي لدى المسلم


توجد لدينا مشكلة كبيرة ألاحظها منذ زمن تتمثل في حلول الفقه محلّ الأخلاق والحس الأخلاقي

شاهدتها سابقاً لدى من كان يدافع عن مشروعيّة عقوبة "حرق البشر أحياء" لأن في الموروث الفقهي آراءً تبيح ذلك. وهناك بالمقابل من "دافع" عن الموروث الفقهيّ بقوله إنه لولا الآراء الأخرى التي تحرّم حرق البشر لما استطعتم استنكاره! مع أنك لو سألت شخصاً لادينياً فعلى الأرجح سيجيبك بأنه أمر في غاية الشناعة والبشاعة.. الأمر لا يحتاج إلى دينٍ حتى، والمفترض ألا ننتظر الفقه ليحرّمه حتى نستنكره ونعتقد بإثمه، أي أن يكون لدينا حسّ أخلاقيّ مستقل عن الفقه. (يعلّق البعض هنا بأن الأحكام الأخلاقية للّادينيّ فيها قدرٌ من الاعتباطية والتأثر بالإعلام ولا يُبنى عليها، وهذا صحيح، ولكن في هذه الحالة فالإسلام لديه فلسفة وتوجه في الحرب والتعامل مع العدو، وتعذيب الأعداء مما حرّمه الإسلام وضوحاً ويخالف مجمل توجّهه، ولعل الإسلام أول تشريع يتعامل برحمةٍ مع الأعداء أصلاً وهذه المسألة من ضمن ما يدركه اللاديني بفطرته لا تأثرا بأحد). 

وسمعت سابقاً عمّن استحلّ القطيعة الكاملة فوق ثلاثة أيام -بل فوق ثلاث سنوات- لأنه وجد رأياً يبيحها.. وكأن وجود هذا الرأي يغيّر من تقييم الفعل..

وسمعت من يقول حرفياً بأن كل طلاقٍ أخلاقيّ بالضرورة ولا يمكن أن يكون خاطئا أو تعسفياً أو مضرًّا بحال طالما أنه مباح شرعاً.

هناك من يقصر حسه الأخلاقي على أحكام الفقه الخمسة ولا يعترف بمصدر أخلاقي سواها، وسيكفيه إيجاد مستندٍ فقهيّ يجعل الفعل مباحاً -أو مختلفاً عليه-، فلا يعود هناك مكان للضمير أو الأخلاقية .. ويتحول الخلاف المهمّ والخطير حول أخلاقيّة الفعل ومدى سلامة عواقبه إلى خلافٍ فقهيٍّ مشروعٍ واجتهاداتٍ مختلفة صحيحة ومتساوية!

أفعال تنظيم داعش بمجملها لديها آراءٌ فقهية كثيرة تستند إليها.. ومن لم يوصله ضميره وتفكيره وحسّه الأخلاقي إلى فساد منهج داعش وإجرامها فغالباً لن ينفع معه النقاش في الأدلة الشرعية فهناك آراء وتفسيرات على الجهتين.. ليست الأدلة الشرعية هي ما يفترض به أن يقنعك بلاأخلاقية داعش، وليس المفترض بك أن تظل حائراً في مدى سلامة منهج داعش حتى تجد دليلا نصيًّا يخبرك بالجواب.

بل إن هذا يقزّم الخلاف الأخلاقيّ والإنسانيّ العميق مع كلٍّ من التصرفات السابقة ويختزله إلى مجرد اختلافٍ في فهم النّصوص الشرعية والاجتهاد الفقهي.


تحدّث الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن هيمنة الفقه على علوم الدّين نفسها حتى صار القرآن يُقرأ على أنه فقه والسّنة تُقرأ على أنها فقه، ويتم تناسي الأخلاقيّات والكونيّات والحكمة والتفكر في سنن نهوض وسقوط الأمم. وتحدّث الدكتور جاسم سلطان عن نفس المعنى ذاكراً ما حصل للشّورى؛ فبدلا من أن تُدرس الشورى كأداةٍ لا غنى عنها لبقاء الحضارات وازدهار الدول والمجتمعات، وتوضع نظريات ودراسات معمّقة في كيفية تطبيقها، دُرست على أنها مسألةٌ فقهية، فضاعت ما بين قائل بأنها مُلزمة وقائل بأنها غير ملزمة واستوى الرأيان ولم نستفد شيئا من آيات الشورى حيث صار الآخذ بها وغير الآخذ بها كلاهما ملتزمَين بتشريع الله في الشورى! (هنا يتغوّل الفقه ليس فقط على مساحة الأخلاقيّة بل أيضا على مساحة الحكمة والتّفكير في سنن الحياة كقيام وسقوط الحضارة .. ما هو الردّ على من يقول بأن الالتزام بالشورى ليس اختياريا بل هو أمرٌ ضروريّ ولازم لقيام الحضارة فضلا عن كونه أكثر أخلاقية؟ الرد طبعا هو أن عدم الأخذ بها أيضاً مباح فقهياً، إذاً فهو جائز أيضاً!).

يمكن تسمية هذا بالبارادايم الفقهي أي الإطار الفكري الذي يسيطر على العقل ويشكّل نظرة الإنسان للأمور وفق الأحكام الخمسة حصراً، فلا يعود هناك بالنسبة له معنى لضروريّة شيء إلا عبر كونه واجباً فقهيا، ولا يستطيع التفكير في لاأخلاقية شيءٍ إذا كان مباحاً فقهيا، مع أن أخلاقية الشورى وضروريّتها لبقاء الحضارة أهمّ وأقوى بكثير من أن تحتاج لإيجاب فقهي.


 

في قضيّة تعدد الزوجات هناك كذلك حالات عديدة لزيجات تعسّفية من أجل نزوات واهية تُحدِث أضراراً نفسيةً بليغة وتحطم أسراً بأكملها، مدعومةً بخطاب فقهي لا مكان فيه لأخلاقية التصرف أو حكمته وحساب عواقبه ويصطف بجانب الزّوج في جميع الأحوال ولو عدّد في السّر دون علم زوجته، ويجرّم رفض الزوجة ويحرّم عليها حق الطلاق حتى -بعكس ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع فاطمة وعلي في القصة المعروفة-.

المشكلة المذكورة لا تشمل من يدافع عن أخلاقية التّعدد لأسبابٍ معينة يرى أنها تجعله أخلاقيا في حالات حيث يمكن مناقشتها معه، لكنها تشمل من ليست لديه أسبابٌ حقيقية لاعتباره أخلاقيا ويدافع عن أخلاقيته فقط لأن الفقه يبيحه في كلّ الحالات أي أنه يساوي بين المباح والأخلاقي. وهذا الشخص لا يمكن مناقشة الأخلاقية معه حيث ليس لها وجودٌ مستقلّ في قاموسه وفي جهاز الاستقبال الذهني الخاص به.


 

من حيث المبدأ فالمشي في الشارع مباح شرعاً ومع هذا قد تفرض الدولة حظر تجول إذا كان في ذلك مصلحة، وقد نُحذّر بشدة من المشي في الشارع إذا كان من الممكن أن يؤدي إلى أذى. وكذلك أكل اللحم مباحٌ ورغم هذا سنستنكر أكل اللحم أمام فقير لم يتذوقه منذ سنة، وسنراه فعلا آثما. فدخول عنصر الأذى إلى المشهد يغيّر تقييم الفعل كله.. ليس هناك أذى مباح. ويبدو أنه لن ينزعج أحد مما سبق بحجة أنه تحذير مما أحلّ الله أو اعتراضٌ على شرع الله في إباحة المشي في الشارع أو إباحة أكل اللحم.. من الذي قال إن المباح أخلاقي دوماً أو حكيم دوماً؟

الأمر ذاته ينطبق على الزواج من الفتيات القُصّر، والذي يُستباح لعدم تحديد الفقه لسنٍّ أدنى لصحّة الزواج.. وينطبق أيضاً على الزواج من الكتابية لمن يعيش في الغرب مثلا، والذي قد نحذّر منه لما قد يتبعه من انحرافٍ في بوصلة الأبناء.. وهذا ليس تحريماً للحلال، بل وضعٌ للأمور في محلها، وتصرفٌ بحكمة. 


 

الشقّ الثاني من المشكلة هو أن هذا الفقه المتغوّل نفسه نحا في بعض الأمور منحى الحكم القانونيّ وصارت أحكامه قوانين لا أخلاقا .. فصار المباح بلغة فقه المعاملات هو المتاح قانونياً وليس الأخلاقيّ بالضرورة أو حتى الحياديّ أخلاقيا.. في حين أنّ ما يريد الإله منا فعله هو الأخلاقي وما سيعاقبنا على فعله هو اللاأخلاقي.

لذا، فإباحة الفقيه لا تغني عن الضّمير أو الحكمة ولا تشفع لمن خدع ضميره أو عطّل عقله. والحساب الأخرويّ يتعلق بأخلاقية الفعل في كل حالة والاجتهاد في استخدام العقل وحكمة التصرف، فإذا كان أي فعلٍ لاأخلاقياً فهو آثم ولو أباحه الفقيه أي جعله متاحاً، وهكذا أفهم الدين كله. 

ما دور الضمير ولماذا يوجد أصلا إذا كانت جميع الأمور مقننةً مسبقاً بحكم محدد وتقييمها الأخلاقي معروفاً سلفاً! هل يظن الإنسان أنه استغنى عن الضمير بوجود الفقه!

من الغنيّ عن القول أنه لا ينبغي إلغاء القوانين، ولكنّ اختزال كيفيّة الحساب الإلهي للإنسان في مجموعة القوانين يتيح المجال لإيجاد تخريجات قانونيّة تحتال على المقصد الأخلاقي بأفعال لاأخلاقية دون أن تستطيع القوانين إدانتها، كما يحدث في أية منظومة قانونية، مما يوهِم بأن ذلك سينطلي على الله. والصحيح أن الله تعالى يأخذ مثقال الذّرة بالاعتبار في الحساب فكيف بمدى أخلاقية الفعل؟ وأنّ من وظائف الدّين إلى جانب رسم الخطوط القانونية العامة تنمية حجم الضّمير لدى الإنسان ومخاطبة هذا الضمير ليميز التصرف الأخلاقي من اللاأخلاقي في كل حالة على حدة.


 

من لا يرى أن الإباحة الفقهية لا تجعل الفعل أخلاقيا بالضرورة فمن الصّعب إيجاد أرضيةٍ مشتركة للنقاش معه في الأمثلة السابقة وأخلاقيّتها في الحالات المختلفة. وكأنه يقول إنّ خلافه مع تنظيم داعش خلاف فقهيّ وحسب لأن الأخلاقية عنده هي بنت الرأي الفقهي مهما كان. أما من يستطيع تمييز الأخلاقية كأصلٍ مستقل فالنقاش معه يتركز في متى يكون الفعل أخلاقياً وحكيماً ومتى لا يكون ولماذا .. وعلى ذلك يتوقف الحكم والحساب، فإذا كان الفعل لاأخلاقياً في حالةٍ ما فلا يمكن أن يكون حينها مباحاً بلغة الإله أي ألّا يكون فيه إثم .. ولو كان مباحاً في فقه المعاملات ذي المنحى القانوني.

فما أكثر ما ذكر القرآن التقوى عند الحديث عن الزواج والطلاق، وما أكثر الآراء الفقهية القانونية التي تخيّل للإنسان أنه مخيّر في التقوى أو عدمها.

الفقه من أعظم علوم الدين وأهمّها، ولكن من المؤسف أن نرى الخطاب الفقهي اليوم يلقي معظم ثقله في إجابة سؤال الإباحة/الإتاحة أو عدمها فيعزّز هذا الإطار الفكري في الأذهان، ولا يولي سؤال الأخلاقيّة والتّقوى والاجتهاد في استخدام العقل -وهو مناط التكليف الإلهي أصلا- وحكمة التّصرف إلا القليل من الاهتمام ولا يدفع المرء للتفكير فيها وكأنها أمورٌ ثانوية أو ليست من الدين أو لا ينبني عليها حساب أخرويّ وثواب وعقاب وجنة ونار.


بقلم Mohammad Al Shoker (نقلًا عن صفحته بالفايسبوك)

هناك تعليقان (2):

  1. صفحة محترمة
    شكرا على المعلومات القيمة

    ردحذف
  2. العفو أهلا بك

    ردحذف

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: