الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

هل ناقض القرآن العلم بقوله أن الشمس تغرب في عين حمئة؟

استشكل البعض ما ورد في سورة الكهف، في سياق الحديث عن رؤية الملك ذي القرنين الشمس وهي تغرب في عين حمئة، وذلك في قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (الكهف: 86)، فتساءلوا كيف تغرب الشمس في عين صغيرة على الأرض وهي نجم عظيم يدور في السماء؟

لا ريب أن القول بغياب الشمس في عين أو بحر بعيد كل البعد عن أبسط معارفنا العلمية التي قررها القرآن منذ زمن بعيد؛ فقد ذكر القرآن أن الشمس والقمر والأرض كواكب أو نجوم تسبح في أفلاكها في السماء {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء: 33)، فلكل فلكه الخاص الذي لا يتداخل مع فلك غيره، فكيف يسوغ - بعد ذلك - أن ينسب إليه القول بغروب الشمس في عين من عيون الأرض.

إن هذا القول أبعد ما يكون عن لفظ القرآن ومعناه، ولو كان هذا الفهم المغلوط مرادًا؛ لوجب أن تشرق الشمس من نفس المحل وعلى نفس القوم الذين غربت عليهم، وهو ما لا يظنه عاقل، ولو صغرت سنه، وهو ما ينفيه القرآن في نفس السياق، إذ بعد غياب الشمس انطلق ذو القرنين تجاه مشرقها {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} (الكهف: 89 - 90).

القرآن في هذه الآية وصف ما تبدى لذي القرنين ساعة الغروب، حيث {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}، ولم يقل القرآن: إن الشمس تغرب في تلك العين.
ومثل هذا كمثل ما يراه الناظر من غروب الشمس في البحر أو خلف جبل، فهو يجدها كذلك فيما يتبدى له، وهي في حقيقتها ليست كذلك.

وهذا الفهم للآية ليس تأولًا لها في عصر العلم، بل هو قول معروف تداوله العلماء منذ قرون طويلة، فقد نقل القفال (تـ 507هـ) عن العلماء قولهم في تفسير هذه الآية: "ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربًا ومشرقًا حتى وصل إلى جرمها ومسها، لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا}، ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم".

وقال الرازي: "ثبت بالدليل أن الأرض كرة، وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضًا قال: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا} ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضًا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} من وجوه:

الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره

الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار".

وقال ابن كثير: "{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم.
وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه.

ومازال هذا المعنى مشهورًا عند العلماء في القديم والحديث [...].

كتاب: تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين لمنقذ السقار، ص195 - 197

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: