إن جمهور الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير والرفق، رعاية لظروفهم، وما غلب على أكثرهم من رقة الدين، وضعف اليقين، وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم، والمعوقات عن الخير.. ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسروا عليهم في مسائل الفروع، على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول. ومن كان يعمل بالأحوط فهذا حن إذا كان ذلك لنفسه ولأولي العزم من المؤمنين. أما من كان يفتي الناس عامة، أو كتب للجماهير كافة، فينبغى أن يكون شعاره التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، اتباعا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعذا وأبي مسوى حين بعثهما إلى اليمن فقال: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" وقال: "إنما بعثتم ميسيرن ولم تبعثوا معسرين".
وهذا يجعل الفقيه يستحضر الرخص، فإن الله يجب أن تؤتى رخصه، ويقدر الأعذار والضرورات، ويبحث عن التيسير ورفع الحرج، والتخفيف عن العامة (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]
ولهذا رأينا علماءنا السابقين إذا نظروا في معاملة عمت بها البلوى يحتمل تكييفها وجهيين: أحدهما يميل إلى جهة الإباحة والآخر إلى جهة الحظر، نجدهم يرجحون الاتجاه إلى التخفيف والترخيص معللين بهذه العبارة "تصحيحا لمعاملات المسلمين بقدر الإمكان"
وهذا ما اخترته لنفسي في إفتاء الجمهور، فإذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أيسر، والآخر أحوط، أفتي الناس بالأيسر. وحجتي في هذا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما خير بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وليس معنى هذا أن نلوي أعناق النصوص المحكمة، أو نجترئ على القواعد الثابتة، بدعوى التيسير على الناس، فمعاذ الله أن نقصد إلى ذلك، وما أحسب أن شريعتنا تحوجنا يوما إليه، ولكن الذي أعنيه أن نضع في اعتبارنا حين نجتهد -منشئين أو مرّجحين- مصالح الناس وحاجاتهم، التي لم ينزل الله شرعه إلا لتحقيقها على أكمل وجه.
ولا غرو أن نجد في فقه أئمتنا وفي كتب المذاهب المعتبرة هذه الجملة المعبرة في ترجيح بعض الأقوال على بعض: هذا أرفق بالناس.
ويسرني أن أذكر هنا كلمة لإمام كبير انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات:
في الفقه، حيث كان له مذهب وأتباع لمدة من الزمن ثم انقرضوا...
وفي الحديث والرواية، حيث كان يسمى "أمير المؤمنين في الحديث".
وفي الورع والزهد حيث عد من أئمة التقوى، وأعني به الإمام سفيان بن سعيد الثوري، فقد روى عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع هذه الكلمات المضيئة: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!
القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، ص22-23
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق