العجب أن الأجيال المتأخرة من المسلمين شغلت نفسها بألوان من الفكر! أو شلت خطوها بأنواع من القيود آذت الإسلام كل الأذى!
يريد الإسلام أن ينطلق بأركانه السليمة ومعالمه الثابتة، فإذا ناس يقولون: ضموا إلى هذه الأركان والمعالم المقررات الآتية الشورى لا تقيد الحاكم إداريا ولا وزاريا ولا قضائيا!
وضموا كذلك إلى أركان الإسلام ومعالمه المقررات الآتية: لبس البدلة الفرنجية حرام، كشف وجه المرأة حرام، الغناء حرام، الموسيقى حرام، التصوير حرام، الكلونيا حرام، إعلاء المباني حرام، ذهاب النساء إلى المساجد حرام...
هذه الضمائم الرهيبة تُضَمُّ إلى كلمة التوحيد، وقد تسبقها عند عرض الإسلام على الخلق، فكيف يتحرك الإسلام مع هذه الأثقال الفادحة.؟
إنه -والحالة هذه- لن يكسب أرضا جديدة، بل قد يفقد أرضه نفسها.
=
وهنا سؤال أطرحه ليبدو فرق آخر بين أسلوب الدعوة عند سلفنا العظيم، وأسلوبها في الأيام العجاب من تاريخنا!
إن جرَّ الحقائق من ذيلها يثير الضحك، وعرض الإسلام من فروعه البعيدة يثير الحزن.
أساس ديننا كلمة التوحيد، والبناء الأخلاقي الشامخ الذي ينهض عليها ويثبت للإنسان والشعوب حقوقا في الإخاء والمساواة والحرية تنفي الجبروت والقسوة وتكسر القيود والسدود، وتبوِّيء الإنسان مكان السيادة في الكون..
وآيات القرآن في هذا المجال تهدر بالحق فلماذا أهملت؟
النبيُّ الإنسان محمد بن عبد الله له سيرة تنضح بالشرف وعظمة النفس والخلق، وكلماته في الآداب الخاصة والعامة تنتزع البشر انتزاعا من طبائع الأثرة والإسفاف وتصقلهم صقلا يجعل منهم بشرا في مستوى الملائكة، كيف يُسكت عن هذا التراث؟
العبادات عندنا معراج روحيّ يوثق علاقة الإنسان بربه، فهو يعيش معه، ويعيش له، ويتعاون المؤمنون أمثاله لجعل آفاق الأرض محاريب لعبادة الله وحده، وذكر اسمه، والاستعداد للقائه!
بأي حق نذهل عن هذه العبادات ونجعل قصارانا لغطا حول أمور فقهية مطاطة، تتسلل إليها طبائع أفراد وعادات شعوب، وهي سلبا أو إيجابا معذورة الخطأ.
وإذا كان الأوروبيون لا يألفون إلا أن يكون وجه المرأة سافرا فليسقط النقاب ولتمضي كلمة التوحيد في طريقها.
وإذا كانوا يرون أنها تلي منصب القضاء والوزارة، فمن يصدُّهم عن الإسلام لأن من فقهائنا مَنْ يمنع ذلك! ألا فليسلموا، ولتسقط العقبات الي تصدهم عن دين الله...!
من قال: إن الإسلام يشترط تبعية لمذهب فقهي معين في الفروع؟ إن في الدعاة فتنانين يصدّون عن سبيل الله، ويُكرهون الناس على اتخاذ سبل أخرى.
سيطر عليَّ وأنا في كندا شعور من الكآبة والمرارة لأن نزاعا حدث في أحد المساجد، أتقرأ سورة قبل خطبة الجمعة أم لا؟
إن النازحين إلى العالم الجديد حملوا معهم جراثيم العفن في عالَمهم القديم! وبديهٌ أن يكونوا صورة للأقطار التي أتوا منها! هل فكر أقلّهم أو أكثرهم في أسباب تخلف الأمة التي ينتمون إليها؟
إن الفراغ الذي يسود النفس المسلمة كبير، وفي اتساعه يمكن أن تنتفخ أنبوبة كأنابيب الأطفال، فتمتد طولا وعرضا دون عائق لأنه ليس ثمت إلا الفراغ، لا شيء، يعوقها وتبدو "البالونة" المنفوخة شيئا ضخما ولا شيء فيها إلا الهواء!
لو كان للعقائد، والأخلاق، وجواهر العبادات لا صورها، مكان عتيد لضاق المحل دون تضخم توافه كثيرة كان من المستطاع أن تكون "الأقليات" الإسلامية في أوربا وأمريكا واستراليا رءوس جسور يعبر عليها الإسلام –وكل شيء هنالك يتطلبه، ويهفو إليه- لو أن المسلمين يفقهون دينهم ويصنعون أنفسهم ومسالكهم صورا وسيمة له.
أما الاشتباك في حرب حياة أو موت من أجل التصوير الشمسي أو من أجل نقاب المرأة، فضلا عن حقوقها الطبيعية، فلا نتيجة له إلا الفشل.
ص86-88
=
فماذا يحدث عندما يجيء دعاة مسلمون ينتمون إلى السلف ويؤلفون كتبا تزعم أن في القرآن نيفا وأربعين آية تقرر جمود الأرض في موقعها ودوران الشمس حولها.. وهو زعم كاذب لا ينطوي إلا على خليط من الجهالة والكبر!
وهو في هذا العصر فتنة عن الإسلام، وإساءة بالغة لكتابه الأول..!!
لو أن بدويا اعتنق هذا الفكر فليعش أو ليمت به إن شاء!
أما أن يقول باسم الإسلام كلاما يخالف أبجديات العلم الحديث وحقائه المستقرة فمعنى ذلك أنه يفتن العلماء عن الحق، ويجعل جمهرتهم تحس هذا الدين بقية من خرافات القرون المتأخرة..
ومن ثم فإن ترديس الفيزياء والكيمياء والأحياء والجغرافيا وبعض الأوليات في الجيولوجيا والفلك أمر يحتاج إليه المشتغلون بالدعوة حتى لا يصعد مجنون منبرا ويُكذِّب باسم الإسلام وصول الأميركيين إلى القمر!
=
التعاليم التي ندعو إليها هي الأركان المتفق عليها والنصوص المقطوع بها، أما ما يحتمل عدة أفهام فلا دخل له في ميدان الدعوة!
=
فلننظر إلى الخبر الآخر الذي جاءنا من أميركا! لقد قالوا: إن سلطات الأمن في واشنطن أمرت بإغلاق المسجد في المركز الثقافي الإسلامي (!) لماذا؟
ألأن القوم هناك يضنون بحرية التبليغ على أتباع الإسلام؟ كلا، فحرية الدعوة مكفولة.. لكن الذي حدث أن المسلمين من رواد المسجد انقسوما على أنفسهم انقساما شائنا، ووقعت بينهم فتن عكرت صفو الأمن، فرأت الدولة أن تستريح من هذا الشغب!
ترى ماذا قَسَم المسلمين هناك، وأفسد ذات بينهم، وانتهى بإغلاق مسجدهم؟؟
قالوا: نزاع بين أتباع السلف وأتباع الخلف تفاقم حتى أوقد بينهم حربا لا تؤمن عقباها!!
وتصورت أنا ما حدث، يصلي إمام شافعي المذهب فيجهر بالبسملة، ويقنت في الفجر، فيقول له مأموم من السلف: الجهر بالبسملة لم يرد، والقنوت في الفجر بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!!
ثم يحاول هو ومؤيدون أن يصلوا على مذهبهم هم، وهنا يتشابكون، ويكون النزاع بالأيدي ويخاف نصارى واشنطن أن يتحول إلى تشابك بالنعال أو بالنصال فيغلقون المسجد!
وربما كان الخلاف: هل يُجهَر بختم الصلاة أو يُسَرُّ؟ هل تقرأ سورة الكهف قبل الصلاة أم سورة أخرى أم لا قراءة البتة؟
[...]
إن المسلمين القادمين إلى العالم الجديد يحملون معهم كما قلت من قبل أدرانهم الفكرية، وجراثيم العفن الخلقي الذي أزرى بهم وبدينهم على سواء!
أترى الإسلام يحرز نصرًا في ميادين الدعوة بهذا التفكير؟ ماذا لو عولجت هذه القضايا الثانوية على مُكْث، وتركت وجهات النظر الغالبة او المغلوبة تحيا كيفما اتفق، وتعاون الجميع على خدمة العقائد والأخلاق والعبادات المجمع عليها –وما اكثرها- وبقيت الأمور الخلافية معلقة، أو ماضية على أي وجه؟
إنني بعد ما بلوت أصحاب هذه القضايا استقر عندي أن القوم يتعصبون لأنفسهم! وأن العناد واللجاج مظهر للغلب الشخصي تحت ستار من اسم الله، وحقائق الدين!!
إنهم يفقدون نكران الذات، وإيثار الله، ومصلحة الإسلام العليا! إن هؤلاء الناس محتاجون إلى مزيد من التربية الخلقية والزكاة النفسية والتعلق بالآخرة.
أما عناوين السلف والخلف فهي قشور.. وحاجة الإسلام إلى الفقه الذكي مثل حاجته إلى النية الصالحة، ولن يفيده مخلص أحمق، ولا عالم مفتون!!
ص200-202
اقتباسات منوعة من كتاب محمد الغزالي؛ مستقبل الإسلام خارج أرضه: كيف نفكر فيه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق