كنا قد فندنا من قبل خبرا كاذبا زعم بأن ناسا قد أثبتت علميا بأن القمر قد انشق، وقد كذّبت ناسا الخبر بنفسها كما هو موضح في هذا البحث: حقيقة معجزة انشقاق القمر
أما جديد عالم الأكاذيب فهو حقيقة يجهلها البعض وهي أن العلماء أنفسهم قد اختلفوا في تفسير الآية: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ)!
يقول محمد رشيد رضا (2) في هذه الآية: "فإذا أنت رجعت إلى لغة القرآن في معاجمها لتفهم الآية منها دون هذه الروايات وجدت في لسان العرب ما نصه: والشق: الصبح، وشق الصبح يشق شقًا: إذا طلع، وفي الحديث (فلما شق الفجران أمرنا بإقامة الصلاة) يقال شق الفجر وانشق: إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه [...] وانشق البرق وتشقق: انفلق، وشقيقة البرق: عقيقته وهو ما استطار منه في الأفق وانتشر اهـ. فعلى هذا يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر، وقال الراغب في مفردات القرآن:
(وانشق القمر) قيل: انشقاقه في زمن النبي عليه السلام، وقيل: هو انشقاق
يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل: معناه: وضح الأمر اهـ. ونقله عنه صاحب التاج، وهذا الأخير هو المتبادر من الآية بنص اللغة ومعونة السياق؛ لأن صيرورة القمر شقتين منفصلين لا دخل لها في إنذار المشركين الذي هو موضوع السورة، ولم يسبق أن عد من آيات الساعة كانشقاق السماء وانفطار الكواكب، فلم يبق إلا أنه بمعنى ظهور الحق ووضوحه بآيات القرآن.
والقول بأن معناه أنه سينشق عند قيام الساعة مروي عن الحسن البصري وعن عطاء من التابعين، والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي في القرآن كثير جدًا في أخبار الساعة والآخرة وغيرهما [...]." انتهى كلامه ومنه نستنتج أن العلماء اختلفوا في فهم الآية فمنهم من قال انشق بمعنى طلع، ومنهم من قال الآية تتحدث عن يوم القيامة، ومنهم من ربطها بأحاديث معجزة انشقاق القمر التي رُوي أنها حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعجاز المشركين، فما صحة هذه الأحاديث؟ وهل حصلت فعلا هذه القصة المروية؟ هل انشق القمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
تطرق محمد رشيد رضا (1) لهذه المرويات، وخلاصة كلامه أن أقوى رواية وردت في هذا الحديث هي رواية ابن مسعود بينما بقية الروايات جاءت مرسلة (والكثير من أهل العلم يعتبرون المرسل ضعيفا ولا يعتدون به). وهذا يعني أن قصة انشقاق القمر وصلت عن طريق الآحاد وليست متواترة كما يحب أن يتخيل البعض. (راجع هذا المصدر لمزيد من التفصيل).
أما من ناحية المتن فقد شرح كيف أن الراوايات التي وردت في هذه القصة متناقضة بحيث يعسر الجمع بينها حتى أن البعض قال تعددت انشقاقات القمر ليجمع بينها (1)!
ومن الإشكالات التي ذكرها الشيخ هي معارضة هذه المرويات لنصوص القرآن التي تؤكد لنا أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم هي القرآن، وأن الرسول لم يؤيد بمعجزات حسية (2): "وكونه [حديث انشقاق القمر] مع هذا معارَضًا بنصوص القرآن القطعية وما يؤيدها من الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كون آيته التي جعلها الله تعالى حجة نبوته وأمره بالتحدي بها في جملتها تارة، وبعشر سور مثله وبسورة من مثله، وبالاحتجاج ببعض ما اشتملت عليه تارات أخرى - هي القرآن وحده، [...]." اهـ.
أما الإشكالية الأخرى فهي عدم تواتر هذه القصة رغم أنها تحكي عن خبر عظيم مدهش (1): "[...] مما يقطع بكذبه الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر، إما لكونه من أصول الشريعة، وإما لكونه أمرًا غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة. ومن المعلوم بالبداهة أن انشقاق القمر أمر غريب، بل هو في منتهى الغرابة التي لا يُعد سقوط الخطيب في جانبها غريبًا؛ لأن الإغماء كثير الوقوع في كل زمن، ومتى وقع سقط صاحبه خطيبًا كان أو غير خطيب، وانشقاق القمر غير معهود في زمن من الأزمان، فهو محال عادة، وبحسب قواعد العلم ما دام نظام الكون ثابتًا، وإن كان ممكنًا في نفسه لا يعجز الخالق تعالى إن أراده، فلو وقع لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد
ومن جميع الأمم، ولو كان وقوعه آية ومعجزة لإثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لكان جميع من شاهدها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقلها وأكثر الاستدلال والاحتجاج بها حتى كان يكون من نقلتها في رواية الصحيحين قدماء الصحابة الذين كانوا لا يكادون يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في مثل هذه المواقف، كالخلفاء وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم رضي الله عنهم، وقد علمت أنه لم ينقل فيهما مسندًا إلا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأنه لم يقل: إن ذلك كان آية بطلب كفار قريش؛ وإنما روى هذا أنس بن مالك، وروايته مرسلة ليست عن مشاهدة كما تقدم، وعلمت ما في الروايات في غير الصحيحين من العلل." انتهى كلامه. ومثل هذا الإشكال أن باقي الأمم وباقي الأقطار لم يصلنا منهم أن القمر انشق (1): "الله تعالى إذا أراد أن يؤيد رسوله صلى الله عليه وسلم بآية كونية عظيمة كهذه تكون حجة له على الناس؛ فإنه لا يجعلها كطرفة عين يراها أفراد قليلون في آخر الليل، [...] بل يجعلها آية مبصرة كناقة صالح لا يمكن الشك ولا المراء الظاهر فيها.". اهـ.
ويختم كلامه بهذا القول (2): "والحق [روايات انشقاق القمر] ليست من أصول الإسلام ولا من فروعه، فأصول العقائد الإسلامية لا تثبت إلا بدليل قطعي، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، والدليل القطعي إما عقلي وإما نقلي، والنقلي هو النص القطعي الدلالة عن الله ورسوله، والآية ليست قطعية الدلالة على كون الانشقاق هو صيروة القمر فلقتين منفصلة إحداهما عن الأخرى، كما اعترف بذلك الذين فسروها بذلك وآخرهم الآلوسي، وقد بيَّنا نحن أن دلالتها على ما ذكر مرجوحة، فما كانت لتخطر على بال أحد لولا تلك الرواية المنقوضة بنص القرآن والحديث المرفوع المتفق عليه [...].
الإسلام ينهاكم أن تقبلوا حديث أي إنسان عن صحابي وغيره يخالف نص القرآن، وسنن الله في الأكوان." اهـ.
أخيرًا اسمحوا لنا أن ننقل لكم اقتباسا من كلام للشيخ الغزالي حول هذه الآية جاء في مقال كتبه ردًا على حوار قديم دار مع ملك للروم شكك فيه في قصة انشقاق القمر (3) فكتب الغزالي رده على هذا المشكك:
"[...] إن شرحْتَ صدرًا بعقيدة التوحيد، ورفضت من الناحية التاريخية انشقاق القمر وتوقف الشمس، فأنت مسلم مقبول الإيمان.
ولا يصدنَّك عن دين الله خبر راو من الرواة حفظ أم نسي واعلم أن من مفكري المسلمين ومفسري دينهم من اعتبر الانشقاق من أشراط الساعة، وأن من المتكلمين من توقف في أخبار الآحاد، كما قال إبراهيم النظام: "إن القمر لا ينشق لابن مسعود وحده" وابن مسعود هو الذي رُويَ عنه الحديث المذكور...
ربما قال لي قائل: كيف تتهاون في حديث صحيح على هذا النحو؟ وأجيب إن رد حديث بالهوى المجرد مسلك لا يليق بعالم، وقد ردّ أئمتنا الأولون أحاديث صحاحا لأنها خالفت ما هو أقوى منها عقلا ونقلا.. وبذلك فقدت مقومات صحتها، ومضى الإسلام بمعالمه ودعائمه لا يوقفه شيء! وقد قلت: إنني لا أربط مستقبل ديننا بحديث آحاد يفيد العلم المظنون، وأزيد الموضوع بيانا فأقول:
إنني أومن بخوارق العادات، وأصدق وقوعها من المسلم والكافر والبر والفاجر، وأعلم أن قانون السببية قد يحكمنا نحن البشر بيد أنه لا يحكم واضعه تبارك وتعالى..
وعندما قرأت حديث الانشقاق شرعت أفكر بعمق في موقف المشركين، إنهم انصرفوا مكذبين إلى بيوتهم ورحالهلم بعدما رأوا القمر فلقتين عن يمين الجبل وشماله، قالوا: سحرنا محمد، ومضوا آمنين سالمين لا عقاب ولا عتاب..!.
قلت: كيف هذا؟ في سورة الأنبياء يحكي الله سبحانه سرّ كفر المشركين بنبيهم محدِّدين مطلبهم منه ((فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ)) ويحكي القرآن لماذا لم يجابوا إلى مطلبهم ((مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ۖ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)) إن التكذيب بعد وقوع الخارق المطلوب يوجب هلاك المكذبين!.
فكيف يترك هؤلاء المكيون بدون توبيخ ولا عقوبة بعد احتقارهم لانشقاق القمر؟.
ويؤكد القرآن الكريم هذا المنطق في سورة الإسراء ((وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)) فإذا كان ارسال الآيات ممتنعا لتكذيب الأولين فكيف وقع الانشقاق؟..
بل كيف يقع أو يقع غيره والله يقول في سورة الحجر ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ))
ثم إن المشركين في مواطن أخرى ألحُّوا في طلب الخوارق الحسية ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا..)) فلماذا لم يقُل لهم: سبق أن انشق لكم القمر فكذبتم؟ أيمر هذا الحدث ليعقبه صمت تام؟..
وفي سورة أخرى قيل للكافرين وهم ينشدون المعجزات الحسيّة: حسبكم القرآن فيه مقنع لمن نشد الحق ((وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ..)).
إن مئات الآيات في سور كثيرة طوال العهد المكي دارت في إثبات الرسالة على محور واحد، إيقاظ العقل وتعريفه بربه واعتبار صاحب هذا الوحي إمام السائرين إلى الله المعتصمين بحبله، وتجاوزت مقترحات الكفار أن يروا آية مادية معجزة..
من أجل ذلك لم أقف طويلا عند حديث الانشقاق وأبيت بقوة أن أربط مستقبل الدعوة به أو بغيره من أحاديث الآحاد التي تصطدم بأدلة أقوى منها..
ولست بدعا في هذا المسلك، فأبو حنيفة ومالك ردُّوا أحاديث من هذا الطراز عارضها من دلالات القرآن ما هو أقوى منها..
إننا لا ننكر الخوارق من حيث هي، وإنما نناقش الأسانيد التي جاءت بها، ونوازن بين دليل ودليل، وإيماننا بالخوارق هو الذي جعلنا نحن المسلمين نصدق ميلاد عيسى من غير أب، فالقرآن قاطع في هذه القضية وإذا ثبت قول الله فلا كلام لأحد..!.
والقاعدة أن خبر الواحد يُعمل به ما لم يكن هناك دليل أقوى منه فيصار إليه" اهـ.
المراجع:
(1) كتاب مجلة المنار، ص261 :ربيع الآخر - ١٣٤٨هـ مسألة انشقاق القمر
(2) كتاب مجلة المنار، ص361: جمادى الأولى - ١٣٤٨هـ بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر
(3) محمد الغزالي في كتابه الطريق من هنا
شكراً لأرسالك المقال لى , سأحاول قرائة الروابط التى ارسلتيها فى القريب العاجل ان شاء الله :) .
ردحذفلا شكر على واجب وأهلا وسهلا بكم في أي وقت :)
ردحذفبالإضافة إلى أن آيات التنزيل الحكيم (مثل "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ") تنفي وقوع الآيات البينات (خوارق الطبيعة) لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كالتي جاءت للرسل السابقين (مثل عيسى وموسى عليهما السلام) فإن الكلمات التي جاءت بها الآية الكريمة في شق القمر تنفي التصور الخاطئ المنتشر بين الناس وهو انقسام القمر إلى نصفين. إذ أن الشق في اللغة العربية لا يدل على مثل هذا الانقسام، وإنما يدل على معنى آخر مثل التمزق إذا حدث في الثوب أو سطح الأرض فقال تعالى "وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ" فلا يفيد أن الصخرة انقسمت إلى نصفين وكذلك قوله "يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً" وذلك للخروج من القبور وليس انقسام الارض إلى نصفين، ولو أراد الله تعالى إخبارنا بأن القمر انقسم إلى نصفين لاستخدم كلمة الفلق بدل الشق، إذ قال تعالى "إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ" وقال "ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ" قالفلق يعني الانقسام إلى جزئين منفصلين.
ردحذفوعلى ذلك فان أحاديث انفلاق القمر (وهي ظنية الثبوت والورود) المروية في الكتب والتراث الاسلامي لا يمكن أن تكون صحيحة لمخالفتها آيات التنزيل الحكيم (والتي هي قطعية الثبوت والورود).