الخميس، 7 مارس 2013

التدين الفاسد ثغرة واسعة لنفاذ الخرافات والأباطيل

إن الفكر الذى نبحث فى نشأته فلا نجد له أصلا شريفا، إنما هو الخرص والتخمين والتقليد والجمود... وتدبر قول الله عز وجل يصف معالم الفكر الجاهلى... “وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون”.

إذا شهد الإنسان بعينيه شيئا فأخبر بما شهد فلا ملام عليه ٬لكن كيف يلقى أخبارا لم يشهدها؟

إن إلقاء القول على عواهنه من أول مظاهر الفكر الجاهلى. ومظهر ثان ينكشف لك من قول الله بعد ذلك: “وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون”.

الكذب والجهل والتخرص... هو خبء هذا الادعاء على الله. والله جل شأنه ما أرغمهم على شرك ولا أغراهم بافتراء!!

ثم يطرد النظم القرآنى كاشفا عن مظهر ثالث للتفكير الجاهلى إذ يتساءل: من أين لهم أن يقولوا ما قالوا ما دامت الدلائل الحسية تنقصهم؟ أنزل عليهم وحى؟ 

“أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون”

كلا. إن التقليد الأعمى!!

 “ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ”

أخيرا تنتهى مجموعة الصفات التى تبرز فى التفكير الجاهلى بالوصف الأخير وهو الجمود وجحد الحق “وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون”

ولو ألقيت نظرة عجلى على الطريقة التى كون المسلمون بها أفكارهم عن الدين وعن الدنيا فى القرون الأخيرة لرأيت أساليب الجاهلية عادت إلى الأذهان فى ميدان العلوم الشرعية والكونية جميعا. الأهواء والأوهام التى لا عمد لها من عقل أو نقل هى التى تروج فى كل ناحية ٬ فلا جرم هان المسلمون وتخلفوا...

قلنا : إن النظر والتأمل والتفكير فى الكون المادى هى مصادر اليقين التى لفتنا القرآن إليها. وهى خطة المنطق الحديث فى بحثه عن الحقائق واستكشافه لقوى العالم وأسراره. إلا أن التدين الفاسد غمط هذا المنهج ٬ وظلم السمع والبصر والفؤاد واشتغل بضروب من الفكر أحسن ما يوصف به أصحابها قول الله عز وجل: 

“ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون”

إن العلم المادي يتعرف على الخواص الكامنة فى الأشياء. ويتعرف على الروابط الأزلية الثابتة بين بعضها والبعض الآخر ٬ ويدون ذلك فى قوانين مضبوطة خالدة... وخطواته القائمة على الحس الدقيق والعقل الواعى تؤسس يقينا يستحق كل احترام... ونحن ما عرفنا الله معرفة اليقين إلا بهذا المنهج من التفكير. 


المنهج الذى هدانا إليه القرآن وبصرنا بأسبابه فى الأرض والسماء.. فكيف شرد المسلمون عنه إبان انحطاطهم؟

وكيف شغلوا أنفسهم بما لا يرفع لهم عند الله منزلة ٬ ولا يدعم لهم بين الناس مكانة؟؟ على حين عكف غيرهم على دراسة الكون ٬وإدمان الفكر فى ظاهره وباطنه حتى وصل بآلاته إلى القمر بينما الجماهير عندنا لا تزال آخذه بأذناب البقر...

الواقع أن الإسلام يحترم خصائص الأشياء ٬ وما تؤدى إليه الملاحظات والتجارب من نتائج. وما يظن أنه مخالف لهذه الحقيقة ٬ فهو من زيغ أناس خولطوا فى أفهامهم وأحكامهم. إن هؤلاء الزائغين حطموا قاعدة الأسباب والمسببات رغبة منهم فى إثبات كرامات للأولياء. ومرت على المسلمين أعصار كثرت فيها هذه الكرامات المفتعلة حتى وقر فى الأذهان أنه ليست هناك قوانين يحكم بها الكون ٬ وأن رغبات أهل الإصلاح تجتاح ما أودع الله فى العناصر من طباع وما بث فى العالم من قوى وأنظمة...!!

كان شيوع هذا التفكير لعنة على العلوم الطبيعية ووقفا لنمائها ٬ بل بخسا لقيمتها. وزاد الطين بلة أن بعض المخلطين ألحق الاعتراف بهذه الكرامات... بعقائد الإسلام. فمن مارى فيها شكوا فى دينه!!

وهذا كله ضرب من السخف يجب محوه وتنظيف الفكر الإسلامى منه...

حقا أن القرآن الكريم تضمن طائفة من خوارق العادات مضافة إلى بعض الأخيار من عباد الله. ونحن نصدق ما أخبر الله به ٬ ونعتقد أن رب العالمين يعلم من شئون خلقه ما لا نعلم ٬ فإما أجرى بعض الحوادث وفق أسباب نجهلها. وإما خرق هذه العلائق العتيدة بين الأسباب والمسببات لحكم نجهلها. وسواء أكان هذا أو ذاك فإن ما يشذ عن قوانين الكون لا يصدق وقوعه ٬ ولا يكلف الناس بإقراره إذا أنبأنا به غير الله..

فمثلا ٬ استنكرت مريم أن يجيئها ولد من غير مسيس بشر ٬ لأن هذا خرق فى السنن الكونية. فإذا قال الله “قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون”.

فهل يفسر هذا الحادث المعجز بأنه يجوز أن يشيع بين الناس خرق القوانين الطبيعية ٬ وأن تزعم امرأة ما أنها رزقت ولدا على نحو ما رزقت مريم؟؟ 

إن الأساس هو تكذيب كل امرأة تزعم ذلك ٬ ولولا أن الله أخبرنا بأنه خلق عيسى على هذا النحو ما صدقنا الخبر.. ومن ثم نحن نستنكر سيل الخوارق الذى اختلقه الناس لمن يسمونهم أولياء ٬ ونرى الأصل استبعاد كل هذا ورده فى وجوه قائليه!! ثم إن الخطأ والصواب فى هذه المسألة يشبه الخطأ والصواب فى بعض قواعد الإملاء مثلا ٬ لا علاقة له بكفر أو إيمان.. ألا ما أكثر الخرافات بيننا..!!

وشئ آخر. لقد تحدث القرآن عن الجن حديثا محددا ومبينا.. ونحن نؤمن بصدق هذا الحديث ٬ ونعرف أن الكون الرحب ليس حكرا على أبناء آدم.. لكن هل يسوغ أن يكون ذلك الحديث تكأة لألوف من الأساطير المفتراة تنتشر هنا وهناك ٬ وتملأ أوهام الصغار والكبار بمشاعر لا أصل لها؟؟ 

والمضحك أن الاتصال بعالم الجن قد أضحى اليوم حرفة لقوم آخرين يعملون تحت عنوان ‘ الاتصال بالأرواح ‘ وتلقى أنبائها بشتى الوساطات. ونحن نتساءل عن جدوى هذا العبث؟ ثم نقول بحسم: إن العلم نوعان: علم خاص بالدين وسبيله الوحى الذى عرفناه عن الله بيقين ٬ وعلم خاص بالدنيا وسبيله البحث المادى والجهد الإنسانى.

وهؤلاء الذين يشتغلون بالأرواح كما يزعمون ٬ أو بالجن كما نرى نحن ٬ يرجعون إلينا بأخبار ملفقة ٬ لا مكان لتصديقها لا باسم العلم ولا باسم الدين...

إن التدين الفاسد يؤثر الخلط بين أمور مغيبة وأمور مشاهدة. لأن فى هذا الجو ثغرة واسعة لنفاذ الخرافات والأباطيل. وقديما اشتغل اليهود بالسحر. والسحر جملة من المعارف البدائية الكونية مخلوط بشئ غير قليل من الخداع والخبث. ويستطيع المحتالون أن يخيلوا به على الأعين ٬ وأن يؤثروا به فى السذج..!! والغريب أن ما اشتغل به اليهود إبان انحلال عقائدهم وفساد عبادتهم هو ما اشتغل به نفر من المسلمين فى العصور الأخيرة.

 نفر جعلوا للحروف أعدادا وأسرارا ٬وللنجوم مطالع سعود ونحوس ٬ وللخيوط المحلولة والمربوطة ٬ والهمهمات الواضحة والغامضة ٬عواقب بالصحة والمرض والنجاح والسقوط... والجن طبعا من وراء هذا الدجل..

أهذا مسلك يباركه العلم؟

كلا!

أهذا مسلك يعرفه الدين؟

كلا!
 

إن دين الله ودنيا الناس فوق هذا الهذر..!!

لقد قصرنا فى ميدان العلوم المدنية تقصيرا شائنا. ولو أن رجلا أجنبيا قارن بين مرامى كتابنا وتصويره للأرض والسماء وما بينهما. وبين واقع حياتنا وتصورنا للأرض والسماء وما بينهما. لوجد البون بين الأمدين هو بعد المسافة بين الحق والخرافة. من أجل ذلك يجب أن نضاعف السير لتعويض ما فاتنا ٬ وإدراك من سبقنا ٬ فإن جهلنا بالحياة كان معصية الله ٬ وإساءة لدينه. وكان إزراء بنا ٬ وشقاء لحقنا بعده ما لحقنا من الأذى والعنت ..


محمد الغزالي

http://www.alghazaly.org/index.php?id=104

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: