لابد أن ننبه هنا على الشروط التى يجب أن تراعى، حين نستخدم العلوم الكونية فى التفسير وخدمة القرآن.
التعويل على الحقائق لا الفرضيات:
أ - أولها أن نستخدم من نتائج العلوم ما استقر عند أهله، و غدا حقيقة علمية،يُرجع إليها، ويعول عليها، ولا نعول على الفرضيات والنظريات التى لم تثبت دعائمها، حتى لا نعرض فهمنا للقرآن للتقلب مع الفرضيات. فليكن اعتمادنا على الحقائق المُقررة.
ولا يُقال: إن العلم ليس فيه حقائق ثابتة إلى الأبد، فكم من قضايا علمية كانت يوما ما - بل ظلت قرونا وقرونا - حقائق مقدسة، ثم ذهبت قدسيتها العلمية، وأثبت التطور العلمى عكسها. وهذا صحيح ومعروف، ولكن حسبنا الثبات النسبى للحقائق. فهذا هو الذي في مقدورنا بوصفنا بشرا. وقد قيل في تعريف التفسير: هو بيان المراد من كلام الله بقدر الطاقة البشرية.
تجنب التكلف فى فهم النص:
ب - وثاني هذه الشروط: ألا نتمحل ولا نتعسف ولا نتكلف في حمل النص علىالمعنى الذي نريد استنباطه، إنما نأخذ من المعاني ما ساعدت عليه اللغة، واحتملته العبارة دون قسر، وقبله سباق النص وسياقه.
ومن مراعاة اللغة هنا: ألا نَحمل ألفاظ القرآن على المعاني المستحدثة فىعصرنا، والتي لم تكن مرادة من النص يقينا، مثل حمل كلمة (ذرَّة) على المعنىالإصطلاحي في علم الفيزياء وغيرها.
ومن هنا رفض المحققون من علماء الشريعة، ومن علماء الطبيعة، ما قالهبعضهم فى قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْأَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّابِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33): إن السلطانهنا هو سلطان العلم، وإن هذا يشير إلى غزو الفضاء و الصعود إلى القمر . . . إلخ. لأن سياق الآية الكريمة يبين أن هذا التحدي في الآخرة، كما يدل على ذلكما قبلها وما بعدها، وأنهم لا يستطيعون الخروج من ملك الله تعالى.
و أين يهربون من ملكه تعالى، و هو الذي له ملك السماوات والأرض؟ و لوافترضنا أن الصعود إلى القمر نفوذ من أقطار الأرض، فهل نفذ من أقطار السماوات؟هذا مع أن الذين صعدوا إلى القمر أو داروا فى الفضاء لا يزالون على صلةبالأرض ، فهى التى تحركهم و تراقبهم، و تعطيهم التنبيهات، و ترشدهم الىإصلاح الخلل إن حدث، كما نقرأ و نعلم.
تجنّب إتهام الأمة كلها بالجهل:
جـ - ألا يحمل هذا الرأي أو التفسير العلمي اتهاما للأمة كلها طوال تاريخها كله - وفيها خير القرون: من الصحابة والتابعين والأتباع والأئمة الكبارفي كل فن - بأنها لم تفهم القرآن الكريم، إلى أن جاء هذا العالم في زماننا، فعلَّمها ما كانت تجهل من كتاب ربها. فمقتضى هذا الكلام: أن الله تعالى أنزل على الناس كتابا لم يفهموه، ولم يعرفوا مراد منزله منه. مع أنه تعالى وصفه بأنه (كتاب مبين)، وأنه (نور) وأنه (هدى للناس).
ولهذا ينبغي أن نقبل من هذا اللون من التفسير: ما كان إضافة إلى القديم، وليس إلغاءً كليّا له، فلا مانع من إضافة فهم جديد للآية، أو جزء الآية، فالقرآن لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد كنوزه وأسراره. والله تعالى يفتح على عباده في فهمه مايشاء لمن يشاء.
[ويقول في كتاب "العقل والعلم في القرأن الكريم": "لا يجوز أن يكون هذا الفهم الجديد للآية مبطلا للأفهام السابقة، بحيث لا ينبغي أن نتهم الأمة كلها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل ربما الرسول نفسه، بأنهم لم يكونوا يفهمون الآية، وأن كل ما ورد عنهم في تفسيرها باطل، وأن المعنى الوحيد الصحيح هو ما فهمه الكاتب أو المفسر الجديد.
وإنما اللائق هنا أن يكون هذا المعنى إضافة جديدة، تُضَم إلى ما سبق، ولا تبطله، فمن خصائص هذا القرآن: أن "لا تنقضي عجائبه"."]
[...]
من ذلك ما ذكره العالم المتمكن أ. د. عبد الحافظ حلمي محمد فى دراسة له عن (العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن) من شرود بعض الباحثين عن المنهج السليم. فمن ذلك أنه عندما ركب الإنسان أول مركب في الفضاء، خفَّ من يقول لنا: إن هذه المركب هي الدابة التي تخرج من الأرض لتكلم الناس (إشارة إلى الآية 82 من سورة النمل). ثم تبعه من يقولون: بل إن هذا نفاذ من أقطار السماوات و لأرض بسلطان (إشارة إلى الآية 33 من سورة الرحمن)، وأن هذا السلطان هو سلطان العلم! وغني عن البيان أن هذا وذاك مخالفان للعلم والتفسير والمنطق و سياق القرآن جميعا! فالمنزلق جاء هنا من عدم الإلمام بما جاء فى كتب التفسير عن هذه الآية الكريمة، أو حتى من عدم الحس الفطري بالمعنى البلاغي لهذا التحدي الشديد للإنس والجن أن يخرجوا من ملك الله و يفروا من قضائه (وإلى أين؟!)، هذا فضلا عن أن العلم لم يزعم على الإطلاق أن تلك (القفزات القصار) التى قفزها الإنسان خارج نطاق جاذبية الأرض، تعتبر خروجاً من أي شيئ إلا فى ذلك النطاق شديد التواضع أمام ملك الله الذى لا يحدّ. و كأني بمن يقول بهذا يعني أن الإنس و الجن قد قبلوا التحدي ونجحوا في الانتصار عليه! وقد بلغ من خلابة المعنى أن تقبله بعض علماء الشريعة، ولكنني أشهد أنه بالحوار المقنع قد عدل عن هذا القول كثيرون.
و شبيه بهذا قول القائلين بأن ذكر الذَّرَّة وما هو أصغر منها (إشارة إلى الآية [61] من سورة يونس، ومواضع أخرى) دليل من القرآن الكريم على أن الذرة - بمعناها الفيزيائي الكيميائي الاصطلاحي الحديث - ليست أصغر الجسيمات في تكوين المادة، وأن القرآن الكريم قد سبق العلم الحديث في هذا بكذا مئات من السنين (واعجبوا معي إلى هذا الحرص الشديد على وضع القرآن الكريم والعلوم الحديثة فى سباق!). وهنا أيضا يتضح أن الفهم الخاطئ لمعاني الألفاظ (وأبرز معنى للفظ الذرة في اللغة هو الهباءة) وللمعنى البياني المقصود وهو التصغير والتهوين والتقليل، كالقطمير وحبة الخردل والورقة، في مواضع أخرى. هذا فضلا عن إدراك أن لفظ الذرة بالمعنى الاصطلاحى الحديث، لم يدخل اللغة العربية إلا فى وقت متأخر، وعلى سبيل ترجمة غير حرفية ولا دقيقة (وإن شاعت و كانت مقبولة لطيفة) للمصطلح الأجنبي (Atom)، أي غير المنقسم أو غير القابل للانقسام.
وثمة مثال ثالث لا يقل غرابة ومجافاة للحقيقة عن سابقيه، وهو قول من رأوا بأن المقصود من إنقاص الله الأرض من أطرافها (الرعد: 41، الأنبياء: 44) إشارة إلى النقصان البطيء المستمر للمحور الطولي للأرض نتيجة دورانها كما تدل عليه القياسات العلمية، وأن هذا أيضا (سبق) و(إعجاز علمي) للقرآن الكريم. والعجيب أن هذا الرأي يتقبله بعض المتحفظين، مع أنه مخالف تماما للسياق القرآني في الموضعين، إذ إنه إشارة إلى انتقاص أرض الكفار بما يفتحه الله للمؤمنين منها نشرا لدعوة الحق. وقراءة الآيات السابقة واللاحقة مباشرة للآيتين المشار إليهما كفيلة بالإقناع لمن يريد أن يقتنع!
هذا فضلا عن أن هذا الرأي مثال لتأويل حديث يحتم أن المعنى الصحيح للآيتين الكريمتين ظل خافيا على المسلمين هذه القرون الطوال منذ نزل القرآن. وليس من البلاغة في شيء الإشارة إلى أمر خاف تماما عن المخاطبين، بل إنه حتى في هذا الزمان لا تكشف عنه إلا القياسات العلمية، ولا شأن له واضحا في حياة البشر، وليس في عبرة لمن يعتبر.
يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق