ولقد علمنا أن الآيات والمعجزات التي أيد الله بها رسله نوعان:
النوع الأول:
نوع حسي مادي، يدرك بالحس، ويشاهد بالعين.
[ومن نظر في معجزات الرسل عليهم السلام وجدها في الغالب حياة تخرج من موات، كما في الناقة إذ خرجت من الصخرة، فالناقة حية، والصخرة جماد. وعصا موسى انقلبت حية تسعى، وكان عيسى يحيي الموتى، وفي قصة البقرة عاد القتيل حياً. فكانت معجزات الرسل معجزات حسية مشاهدة، تصيب المشاهد بسكتة في عقله فلا يمكن له أن يفيق من هولها إلا بالتسليم أو المعاندة. فهي معجزات مكبلة للعقول، محيرة لها، مرغمة إياها أن تستسلم، فتنقاد في غالب الوقت انقيادا مرغما، خاليا من الحياة الحقيقة للعقل. أو تفر من ذلك إلى المكابرة والعناد كي لا تسلم عقلها لما تعجز عن تفسيره، وتريد أن تنعتق من قيده إلى التفكير والنظر.] (عادل الكلباني)
[والمعجزة [الحسية] فعل خارق للناموس الكوني، فعل يجعل العقل حيرانا في حدوثه على يد النبي، فلا يملك العقل إلا أن يستجيب ويذعن، وإن لم يفعل فهو مكابر عنيد. لهذا كانت عاقبة المكذبين بمعجزات الرسل الهلاك وأن يقطع دابرهم.] (عادل الكلباني)
النوع الثاني:
أدبي عقلي، كالقرآن الكريم، المعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو معجزة معنوية لامادية، وآية عقلية لاحسية.
[كانت معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية تفاعلية، معجزة لا تضغط على العقل ولا تمسك به، ولا تحجره بالخارقة التي تجبره على الاستسلام، بل تحجره بمنطقه، وبتفكيره، وباستنتاجه، وبما يراه، ويحسه، ويدرك صدقه، ويزنه بميزان دقيق من المعطيات الواضحة فيستسلم حينها لا عن إكراه، ولا عن قهر، بل يذعن طاعة واقتناعاً.] (عادل الكلباني)
[أما في حال [...] القرآن، فلا بد للمرء أن يعمل عقله، وأن ينظر في قوله، وفي تشريعاته وفي نظمه، وغير ذلك. فهو إذعان منبثق من العمل والتفكير والتدبر، "أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا".
وفي هذا إيقاظ للعقل كي يتدبر، وتحفيز له ليتفكر. فيتأمل العاقل آيات القرآن الكريم حتى يعلم أنها قد أحكمت وفصلت، وأنها لا يمكن إلا أن تكون كما قال الله "تنزيل من حكيم حميد"] (عادل الكلباني)
والفرق بين النوعين:
1. أن الأول يعتمد على ادهاش الأبصار، واخضاع الأعناق، بما يعجزهم من الخوارق المادية. والثاني يعتمد على اخضاع العقول، وانارة البصائر، بما يعجزهم من العلم والحكمة. ولهذا كان الأول لائقا بالأمم في طفولة النوع الأنساني، والثاني لائقا بها بعد أن ارتقت الإنسانية وبلغت رشدها. وفي هذا قال القرآن: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين" (الشعراء:4)، لكن اقتضت حكمته ألا يشاء ذلك.
[فأكبر معجزة للقرآن هي تحريك العقول وتنشيطها ومحاورتها وتفعيلها، وإثارة التساؤلات عندها، ولفت نظرها حتى إلى المألوف عندها، ما قد تراه العيون، وتسمعه الآذان، ويشعر به الوجدان، لكنها تغفل عنه، ولا تتنبه إلى ما فيه من دلائل الإلهية والربوبية.
فالقرآن ينبه العقول إلى ما حولها من شجر وحجر وجبال ودواب وأنعام وفلك وإبل وخيل وحمير وبغال وأرض وسماء، وما يلف حياتهم من ليل ونهار، وصحة ومرض، وعسر ويسر، وعلو وانخفاض، وغير ذلك. فليس فيه أمر عسير على الفهم، لا في أسلوبه، ولا في دلالات الإقناع عنده، فهو يدعو العاقل لينظر إلى نفسه، وإلى بدايته ونهايته، فلينظر الإنسان إلى طعامه، فلينظر الإنسان ممّ خلق، قل سيروا في الأرض فانظروا، أفلا تبصرون، أفلا تسمعون، أفلا تتفكرون، أفلا تعقلون، فأنى تُسحرون.] (عادل الكلباني)
2. أن النوع الأول ينتهي بانتهاء وقوعه، ولايكون حجة إلا على من شاهده أو وصل إليه بالتواتر القطعي. وأما الثاني فيبقى ويستمر إعجازه إلى ما شاء الله.
ولما كانت الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات، أيد الله الرسول المبعوث بها، بآية أو بمعجزة أدبية باقية ما بقيت السموات والأرض، لتظل حجة قائمة على العالمين في كل زمان، مخاطبة للعقول، متحدية المعارضين.
[...]
3. أن ألآية -أو المعجزة- الحسية المادية، تدل على صحة النبوة والرسالة ولكن بأمر خارج عن الرسالة، فعصى موسى، غير ما جاء به في التوراة التي أنزلها الله عليه، وإبراء المسيح الأكمه والأبرص، غير ما جاء به في الأنجيل الذي أنزله الله عليه.
أما المعجزة العقلية، فتدل على صحة الرسالة بموضوع الرسالة ذاتها، فالقرآن آية محمد الكبرى، ومعجزته العظمى، وهو -في الوقت ذاته- دستور رسالته، وموضوع هدايته. ولذا قال تعالى: "فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" (الأنعام:157). فالقرآن في نفسه بينة على نبوة محمد، وهو في ذات الوقت هداية ورحمة.
وفي المفاضلة بين النوعين من الآيات أو المعجزات: المادي والعقلي، يقول الفيلسوف ابن رشد ما ملخصه: إن دلالة القرآن (على نبوة محمد) صلى الله عليه وسلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية (على نبوة موسى) ولا إحياء الموتى وابراء المرضى (على نبوة عيسى) فان تلك -وان كانت لاتظهر، إلا على أيدي الأنبياء، وفيها ما يقنع الجماهير من العامة- إلا انها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة، وأهداف الوحي، ومعنى الشريعة.
أما القرآن فدلالته على صحة النبوة، وحقية الدين، مثل دلالة الإبراء على الطب. ومثال ذلك : لو أن شخصين ادعيا الطب، فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب: أني أطير في الجو.. وقال الآخر: دليلي أني أشفي الأمراض، وأذهب الأسقام، لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفى الأمراض قاطعا، وعند الآخر مقنعا فقط! أه
ومن هنا نفهم الحكمة الإلهية في عدم استجابة الله تعالى لمقترحات المشركين الذين طلبوا من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خوارق حسية وآيات مادية، مثل الرسل السابقين، فأبى الله تعالى إلا هذا القرآن، وأنكر عليهم أن يسألوا آية غيره، وهو آية الله الكبرى لو كانوا يعقلون. يقول تعالى: "وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون" العنكبوت (50-51).
كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ يوسف القرضاوي (تتخلله اقتباسات واقتطاعات من طرفنا)
كثيرا ما طلب المشركون -وألحوا في طلبهم- آية كونية خارقة، كالآيات التي عُرفت عن الرسل السابقين [...] ولكن القرآن لم يجبهم إلى طلبهم، الذي حكاه عنهم في أكثر من سورة، ورد عليهم بأكثر من جواب.
[...]
وقد بين في أكثر من سورة: لمذا لم ينزل عليهم ما اقترحوا من الآيات الكونية؟
ففي سورة الإسراء يقول: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ).
ومعناها: أن الآيات لم تحقق الهدف من إرسالها، وهو الإيمان بالرسل، بل كذبوا بالآيات ولم يعبأوا بها!
وفي سورة الشعراء يذكر سببا آخر، إذ يقول: (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)).
ومعناها: أنه لا يريد أن يلجئهم إلى الإيمان بآية خارقة، تسوقهم إلى الإيمان وكأنهم مكرهون عليه.
بل المراد أن يدخلوا في رحاب الإيمان باختيارهم الحر، واقتناعهم العقلي الخالص، دون أدنى شائبة لإكراه مادي أو معنوي –أو ما يشبهه أو يقترب منه- تخضع له أعناقهم، وتذل له رقابهم.
وفي سورة أخرى يرد عليهم ردا جديدا، وهو أن لديهم آية بينة، تكفيهم عن كل الآيات، وهي القرأن العظيم، يقول تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)) [العنكبوت].
كان يكفيهم هذا الكتاب آية كبرى، لو كانوا يعقلون، ولكنه العناد والمكابرة والتعنت والإصرار على الباطل، هي التي جعلتهم يبالغون في اقتراح الآيات. ولو أنهم أجيبوا إلى ما طلبوا ما آمنوا، فهم يعرفون الحق، ولكنهم يجخدونه ظلما وعلوا، أو بغيا وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
*القرآن هو المعجزة الكبرى:
أجل كان يكفيهم القرآن، لو كانوا يبحثون –بحق وصدق- عن الحقيقة، فهو آية الله التي أعجزت البشر أن يأتوا بمثلها، أو ببعضها.
وإعجاز القرآن للبشر: موضوع رحب بحث فيه الأقدمون، وزاد فيه المحدثون، ووجوه الإعجاز القرآني كثيرة، أظهرها: الإعجاز البياني والأدبي [...].
وهناك لون من الإعجاز أشار إليه القدماء، وتوسع فيه المعاصرون، وهو ما تضمنه القرآن من تشريعات وتوجيها وتعاليم، جمعت بين المثالية والواقعية، ومزجت بين الروحانية والمادية، ووازنت بين الدنيا والآخرة، ووفقت بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع، [...].
القرضاوي، العقل والعلم في القرآن الكريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق