السبت، 4 أغسطس 2018

التعصب للغة العربية

** لا بأس أن ننوّه بلغتنا العربية وإظهار مميزاتها وتميّزها، ووصف جمالها وتفرّدها... 


إلا أن هذا لا ينبغي أن يحيد بنا عن وصف خالٍ من التعصّب لها والاستعلاء على غيرها، أو يحملنا على إقصاء مميزات اللغات الأخرى، التي قد تتشارك بها مع اللغة العربية. وهذا يحذو بنا للتساؤل عن سبب هذا، ولي رأي أدلي به في الأخير.

انتبهت لهذه الإشكالية بعد أن رأيت كثيرا من المسلمين يتحدّثون عن أشياء في اللغة العربية كمِلك حصريّ لها وحدها، مثل: المعنى وضدّه في الكلمة الواحدة، أو تعدّد المعاني Polysémie في الكلمة الواحدة، الاستعارات، التشبيهات، التورية، والمحسّنات اللفظية وعلم البديع والبيان، وكثرة المرادفات...

مع أنّ الكثير من اللغات تتشارك مع العربية فيها، وبعض اللغات تتميّز بما لا تتميّز به اللغة العربية إطلاقا، كما هو الحال أيضا في تميّز العربية الحصريّ في حرف الضاد مثلا، والشّكل والنحو...

* وسأضرب مثالا على خاصية للغة العربية، وهي "التضاد في الكلمة الواحدة":

- في العربية نجد الكلمة توفّي معنى أو ضدّه (المصدر: "التَّضادُّ في اللُّغة ظاهرة علمية" لسامر إسلامبولي):
- الظنّ: قد يعني اليقين والشك
- البَيْن: قد يعني الإجتماع والافتراق (إلا هذه الكلمة لصفحة: "معلومات نحوية، وفوائد لغوية")
- العسّ (والفعل عسعس): الإقبال والإدبار
- قسط: العدل والجور

قد يظن البعض أنّ هذا لا يوجد إلا في العربية، مع أن الفرنسية (كمثال) أيضا تتمتع بهذه الخاصية التي تُسمّى énantiosémie.
كلمات مثل (المصدر: Wikipédia):
- Apprendre: تعني التلقين والتعلّم
- Regret: الحنين والتأسف
- Louer: كراء لشخص وطلب الكراء
- Doute: شك ويقين (مثل العربية تماما)ـ

* أما بخصوص تميّز لغات أخرى بشيء لا تملكه العربية، أضرب مثالا للغة اليابانية:
- اليابانية تتميّز(ملاحظة من المانجا) بتأخير الفعل والنفي معتمدة نظامَ {فاعل-مفعول به-فعل} [SOV: sujet-objet-verbe]، مثلها مثل اللاتينية والتاميلية (المصدر Wiki)، في حين تعتمد العربية نظام VSO أي {فعل-فاعل-مفعول به}.

وبهذا يصعب معرفة قصد "الياباني" حتّى ينتهي من كلامه، لمعرفة هل هو تقرير أم نفي، وما الفعل الذي يدور عليه الحدث:
- مثلا: في العربية نقول؛ |لا أصدق ذلك|، فالجملة من أول وهلة تدل على نفي
- أما اليابانية فكلمة "لا" تأتي في الآخر: |naï| وكلمة أصدّق بدايتها هي هي |shinji| (كلمة تتكرر في المانجا كثيرا)

* ولا يخفى أن تأخير الفعل أو النفي في اليابانية له تأثير على الثقافة والحوار، فهو حلّ جذريّ لمقاطعة الكلام في حواراتنا كما قال "أحمد الشقيري" عند زيارته لليابان في "خواطر 5"، نظرا لكون العربية مفتقرة لهذه الخاصيّة

* وأخيرا أعود للجواب عن سبب هذا التقديس غير الموضوعيّ للعربية دون علم حتّى بأن اللغات الأخرى أخوات للعربية في بعض الأشياء، وتتجاوزها في أشياء أخرى فأقول:

- السّبب في نظري هو ربْط المسلمين قدسية القرآن بالعربية، وخلطهم بين إعجاز القرآن واستعلائه "ككلام" من جهة، واستناده على "لغة" بشرية متقنة من جهة أخرى.

- وتأمّلوا جيّدا هذه النقطة؛ الكلام تراكيب وسياقات وبلاغة، أما اللغة فهي قواعد يضعها البشر وكلمات يشتقونها ويخترعونها ومعانٍ ودلالات يكتشفونها ... لهذا قد تتشابه القواعد والدلالات بين اللغات (لأنّها جُهد عقلي وحاجة واقعية مشتركة) في حين لا يتشابه الكلام لأنّه جمع مركّب، بمعنى آخر هو "طريقة خاصة لاستغلال تلك القواعد والدلالات والمميزات اللغوية". ولكلّ طريقته الخاصة.

ولهذايختلف الكلام بين المتحدثين بنفس اللغة كما هو معلوم، فكل الناطقين بالعربية يستخدمون لغة وكلمات واحدة مشتركة، ولكن جمال الكلام وروعته وفصاحته تختلف حسب تركيبها وحسن اختيار كلماتها ومواضعها.

- وهذا الفرق بين الكلام واللغة هو الفرق الذي يوضّح عجز عرب الجزيرة على الإتيان بشبيه للقرآن، وهم أرباب البيان، ومرتجلوا الشعر، وأصحاب العربية الأقحاح ! ولولا هذا الفرق بين الكلام واللغة اللذان تشابكا في عقلنا الجمعي لما كان لإعجاز القرآن معنى، وما كان التحدّي ليكون أصلا على أرض الواقع !! فتأمّلوا... إذ لا جدوى من تحدٍّ لقوم عندهم "اللغة والكلام" شيء واحد.

* فالقرآن يشترك مع العرب في "اللغة" ويفترق معهم في "الكلام" وهنا مناط الإعجاز والتعجيز.

ومع هذا كلّه، لا يشكك في روعة العربية إلا جاهل بها أو حاقد عليها، وتقرير روعتها ودقّتها وجمالها لا يعني أنّها متفرّدة في كل شيء.
وإن سلّمنا أن العربية هي التجلي الوحيد والأجدر لكلام الله، فهذا يعني أن كلام الله المُنزّل من قبل بغيرها كلام ضعيف غير معجز ولا ملزمٍ بالحجة !

وكما قد نستمرئ في غاية الأريحيّة أن المسلمين ليسوا انعكاسا للإسلام بصفة صافية مطلقة (الفكرة شيء ومعتنقوها شيء آخر لضعف الطبيعة البشرية)، ينبغي أن نستمرئ (ونفهم على وجه الخصوص) أن العربيّة ليست هي القرآنَ نفسُه، أو انعكاسا لكمال الله تعالى وتميّز كلامه بالمطلق عن كلام البشر.

ولنتذكّر أن العربية كانت لغة قبل القرآن، وبها خاطب الله العرب آنذاك ليعلموا قصده على أحسن وجه، ولم تنزل بنزول القرآن، بل كانت مفهومة قائمة عندهم، ولنتذكّر أيضا أن العربية التي تُلي بها القرآن، هي نفسها التي كان يُهجى بها ويكذّب بها ويلغوا بها أعداؤه فيه... ولا تزال

فلنفرّق يرحمنا الله وإياكم

حسن خالدي


طالع أيضا:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: