ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العمليات التي لم ترد بطريق قطعي، أو وردت عن طريق قطعي ولكن لابسها احتمال في الدلالة فاختلف فيها العلماء، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين، والتي تعتبر حدًا فاصلا بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون!.
وإنك لتجد كثيرًا من هذا النوع في كتب التوحيد إلى جانب العقائد التي كلفنا الله أن نؤمن بها، فهي تذكر إلى جانب وجود الله ووحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل: رؤية الله بالأبصار، وزيادة الصفات على الذات، ومرتكب الكبيرة، وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدي والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى وما إلى ذلك [...].
والتاريخ العلمي يدل على أن هذه المسائل جر إليها البحث في العقائد حين تعددت الفرق وكثرت الآراء والمذاهب الكلامية، فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها، ويدلي بحجته على ما يرى، ملتمسًا الوصول إلى ما يلائم في نظره العقيدة المتفقة عليها.
وأمثلة ذلك كثيرة: منها أن المسلمين جميعًا قد اتفقوا على أن الله تعالى منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. فهذه عقيدة قاطعة يعلمها كل مؤمن ولا يختلف فيها عالم مع عالم، ولكن البحث جر إلى مسائل تتصل بها: هل يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده؟ هل العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية؟ هل المعاصي التي يفعلها العباد مرادة لله؟ فاختلف العلماء في هذه المسائل:
رأى المعتزلة أن ترك الأصلح، وتعذيب العبد على شيء لم يفعله، وإرادة القبيح، نقص لا يليق بجلال الله وكماله، فذهبوا إلى وجوب الأصلح على الله، وإلى أن العبد خالق لأفعال نفسه، وإلى أنه تعالى لا يريد المعاصي.
ورأى غيرهم أن إيجاب شيء على الله، وعجزه عن خلق ما يفعله العبد، وحصول ما لا يريد في ملكه، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى أن الله لا يجب عليه فعل الأصلح، وإلى أنه خالق أفعال العباد، وإلى أن يريد المعاصي.
فأن ترى أن هؤلاء جميعًا لم يختلفوا في الأصل الذي كلفنا الله الإيمان به، وهو تنزيه الله تعالى عن النقص ووصفه بالكمال، ولكنهم اختلفوا في أشياء: هل هي نقص فلا يتصف الله بها، أو ليست بنقص فيتصف بها [...].
الاختلاف فيما لا قاطع فيه يمنع التأثيم:
على هذا النحو جرى الخلاف بين الفرق الإسلامية في المسائل التي جر إليها البحث في العقائد، وهو خلاف كخلاف الفقهاء في أحكام الفروع التي لم يرد فيها نص قاطع محكم. خلاف لا يصح أن يُرمَى أحد فيه بأنه حاد عن الصراط المستقيم، أو ضل، أو فسق، أو أنكر مسألة من مسائل الدين... إلخ ولكن عصور التعصب المذهبي العنيف حملت للمسلمين تراثًا بغيضًا من التراشق بالتهم، والترامي بالفسوق والضلال، فتبادل الفقهاء -أصحاب الفروع- نوعًا من التهم، وتبادل المتكلمون -أصحاب العقائد- مثل ذلك، وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم، وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها مقياس ما يقبل من الآراء أو يرفض.
من هذا كله يتضح:
1- أنه لابد في العقيدة من أن يكون دليلها قطعيًا في وروده وفي دلالته.
2- وأن ما لم يكن دليله قطعيًا، فاختلف فيه العلماء، لا يصح أن يعد من العقائد، ولا أن يكون رأيُ طائفة معينة فيه هو الحق دون سواه.
3- وأن كتب التوحيد لم تقتصر على ذكر العقائد التي كلفنا الشارع بها، وإنما ذكرت بجانبها بعض النظريات العلمية التي تعارضت فيها ظواهر النصوص فكانت محل اجتهاد بين العلماء.
ونتيجة هذا كله: أن القول بأن كذا عقيدة يجب الإيمان بها لأن ظاهر الآية أو المروي من الحديث يدل عليه، أو لأنه مذكور في كتب التوحيد -كل ذلك قول من لا يفهم معنى (العقيدة) ولا يعرف أساسها الذي تبنى عليه.
[...]
القرآن... وثبوت العقيدة
[...] وتطبيقًا للمبادئ التي ذكرناها، يتبين لنا: أن الطريق الوحيد لثبوت العقائد هو القرآن الكريم، وذلك فيما كان من آياته قطعي الدلالة (لا يحتمل معنيين فأكثر)، [كآيات] إثبات الوحدانية والرسالة، واليوم الآخر.
وأما ما كان غير قطعي في دلالته محتملا لمعنيين فأكثر، فهذا لا يصلح أن يتخذ دليلا على عقيدة يحكم على منكرها بأنه كافر، وذلك كالآيات التي استدل بها بعض العلماء على رؤية الله بالأبصار في الدار الآخرة: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ). (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ). (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). ولم يسلم لهم آخرون من العلماء فهمهم فيها، بل نفوا الرؤية المذكورة بآية أخرى ((لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
وإذن فثبوت العقيدة بالقرآن أو عدمه مبني على قطعية الدلالة أو ظنيتها. أما قطعية الورود فهذا لا شك فيه، إذ القرآن كله قد وصل إلينا -كما أنزله الله- متواترا جيلا عن جيل.
السنة... وثبوت العقيدة
منشأ ظنية السنة:
[...] وإذا كانت العقيدة لا تثبت إلا بنص قطعي في وروده ودلالته، كان لابد من تبيين المبادئ التي تقوم عليها قطعية السنة أو ظنيتها.
وأول ما يجب التنبه له في هذا المقام أن (الظنية) تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة: فقد يكون في اتصال الحديث برسول الله صلى الله عليه وسلم شبهة فيكون ظني الورود، وقد يلابس دلالته احتمال. فيكون ظني الدلالة، وقد يجتمع فيه الأمران: الشبهة في اتصاله، والاحتمال في دلالته، فيكون ظنيًا في وروده ودلالته ومتى لحقت (الظنية) الحديث على أي نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديثُ العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيًا في وروده وفي دلالته.
[...]
قسم العلماء (السنة) إلى قسمين: ما ورد بطريق التواتر، وما ورد بطريق الآحاد. [...] إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواترًا مقطوعًا بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون (آحاديا) في اتصاله بالرسول شبهة، فلا يفيد اليقين.
[...]
وهكذا نجد نصوص العلماء من متكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه، ويحملون قول من قال: (إن خبر الواحد يفيد العلم) على أن مراده العلم بمعنى الظن كما ورد، أو العلم بوجوب العمل. على أن الكلام إنما هو في إفادته العلم على وجه تثبت به العقيدة، وليس معنى هذا أنه لا يحدث علمًا لإنسان ما، فإن من الناس من يحدث العلمُ في نفسه بما هو أقل من خبر الواحد الذي نتحدث عنه، ولكن لا يكون ذلك حجة على أحد، ولا تثبت به عقيدة يكفر جاحدها، فإن الله تعالى لم يكلف عباده عقيدة من العقائد عن طريق من شأنه ألا يفيد إلا الظن [...].
الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت
ص54-60
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق