الأحد، 3 أبريل 2022

النبي والأولياء وخوارق العادات - محمد الغزالي


 ومن المحققين من يرى أن القرآن هو المعجزة الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يلحظون في هذا الحكم التعريف اللفظي للمعجزة من أنها خارق للعادة مقرون بالتحدي، ولم يعرف هذا التحدي إلا بالقرآن.


وقد ملنا إلى قريب من هذا الرأي لا بالنظر إلى التعريف اللفظي للمعجزة بل بالنظر إلى القيمة الذاتية للخوارق الأخرى بالنسبة إلى الأهداف الرفيعة التي جاء بها الإسلام.


على أنه لا صلة للعقيدة ولا للعمل بهذه البحوث، فالرجل الفاسد لا يغفر له فسادَه إيمانه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أظلته غمامة، أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانتَه إنكاره لهذه الخوارق..


فإن هذه البحوث ترجع إلى التقدير العلمي لأدلة الإثبات، والتقويم المحض لما في الوقائع نفسها من معان، وليس للخطأ والصواب فيها مساس بإيمان.

 

***

 

وقد سلت في المسلمين لوثة شنعاء في نسبة الخوارق إلى الصالحين منهم، حتى كادت جمهرتهم تقرن بين علو المنزلة في الدين وخرق قوانين الأسباب والمسببات، وحتى جاء من المؤلفين في علم التوحيد من يقول:


وأثبتن للأوليا الكرامة     ومن نفاها فانبذن كلامه!!


وصلة هذا الإثبات بعلم التوحيد كصلته بعلم النحو أو علم الفلك!! أي أن حقيقة الدين بعيدة عن هذه البحوث، سواء انتهت بالسلب أو بالإيجاب.


والخوارق التي يتهامس بها المفتونون لأوليائهم هي تعبير سيئ عن رذائل الكسل والحمق التي تكمن في طواياهم، كما أن الأحلام الطائشة التي تعتري النائم تعبير عن الاضطراب الذي يملأ نفسه ويرهق أعصابه.


هذا فتح الباب الموصد من غير مفتاح، وهذا طار في الهواء بغير جناح، وهذا بال على الحجر فانقلب ذهبًا، وهذا اطلع الغيب واتخذ عن الرحمن عهدًا..!!


وأمثال هذه السخافات كثير.. وهي تدل على جهل بحقيقة الدين وحقيقة الدنيا، وتدل على أن مروجيها أضل عقولًا وقلوبًا من أن يعرفوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه.


ما كان محمد صلى الله عليه وسلم رجل خيال يتيه في مذاهبه ثم يبني حياته ودعوته على الخرافة. بل كان رجل حقائق يبصر بعيدها كما يبصر قريبها. فإن أراد شيئًا هيأ له أسبابه وبذل في تهيئتها -على ضوء الواقع المر- أقصى ما في طاقته من حذر وجهد، وما فكر قط ولا فكر أحد من صحابته أن السماء تسعى له حيث يقعد، أو تنشط له حيث يكسل، أو تحتاط له حيث يفرط. ولم تكن خوارق العادات ونواقض الأسباب والمسببات أساسًا ولا طلاء في بناء رجل عظيم أو أمة عظيمة.


إن محمدًا وصحبه تعلموا وعلموا، وخاصموا وسالموا، وانتصروا وانهزموا، ومدوا شعاع دعوتهم إلى الآفاق، وهم على كل شبر من الأرض يكافحون. لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض، ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة، بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم، وحملوا المغارم الباهضة في سبيل ربهم، فكانوا في ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين.


وقد لقنهم الله عز وجل هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقعوا محاباة من القدر في أي صدام، وإن كانوا أحصف رأيا من أن يتوقعوا هذا.


قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) [النساء: 102].


فانظر كيف يكلفون -وهم في الصلاة وبين يدي الله- بأشد الحذر والانتباه؟ إن الله لم يدع أملًا يخامر أنفسهم بأن الملائكة سوف تنزل لعونهم! إن لم يخدموا أنفسهم فلن يخدمهم أحد! ذلك هو خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه..


وعندما ذهل المسلمون عن هذا الدرس في غزوة "أحد" لُطموا لطمة موجعة جندلت من أبطالهم سبعين، وأمضهم خزي الهزيمة، فوقف زعيم الكفر يَومئذ -أبو سفيان- يقول: اعلُ هبل...


وأبلى النبي صلى الله عليه وسلم بلاء شديدًا لينقذ الموقف، وقاتل وقَتَل، وأصيب في نفسه.


[...]


أرأيت التفريط في أسباب النصر جلب شيئًا غير الهزيمة؟ أوَلو كان الذي الذين انهزموا هم ممثلي التوحيد الحق؟! أولو كان الذين انتصروا هم سدنةَ الوثنية المحضة؟!


وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها ويقول: "الحرب خدعة"، ومع قيامه بالأسباب على ما أوجب الله، واحترامه للقوانين الطبيعية التي تنظم حياة البشر، مع ذلك فقد استطاعت بعض قبائل العرب أن تخدعه، وأن تستدرج طائفة من القراء من أفضل أصحابه ليقتلوهم عن آخرهم في بئر معونة، فما دلت على مصارعهم إلا الطيور تحلق في الجو مرفرفة على أشلاء الشهداء..


إن هؤلاء الرجال الذين ذهبوا ضحية الغدر من أحب خلق الله إلى الله، ومع ذلك فما أذن [لأحد] منهم أن يطير بغير حناح، أو يتحول عن هذا القدر المتاح كما يفكر متأخرة المسلمين اليوم.


ولئن كان الحذر والحيطة من سنن النبوة، فإن الإعداد واستنفاد الجهد فيه من آكد هذه السنن. وبماذا تحسب محمدًا صلى الله عليه وسلم انتصر على الناس؟


لقد أنضج رجاله بالإيمان كما يُنضج الصيف بلهبه البطيء أطايب ثماره، فلما أرسلهم إلى أنحاء الدنيا طوَّفوا بها، ولهم زئير كزئير العاصفة المكتسحة المهتاجة..

 [...]

[...] النبوات بما قارنها من خوارق قد [انتهت] مع الماضي البعيد، فليس للتحكك بها من جدوى -وقد علمت أن معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم تكن على غرار ما سبقها، بل كانت معجزة إنسانية عقلية دائمة، ثم نظم الله حياته ودعوته وفق قوانين الأسباب والمسببات كما رأيت.
 

محمد الغزالي، فقه السيرة، ص39-ص41

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: