سؤال الشر (الجزء الثاني: الشر الذي تسببه الكوارث الطبيعية والأمراض...)
مدة القراءة 4 دقائق تقريبا
أولا: قضية الكوارث ما هي إلا سيرورة طبيعية لكائنات كبُرَتْ أم صغُرت (وهذا شبيه بنسبية المصالح بين البشر)
أولا: قضية الكوارث ما هي إلا سيرورة طبيعية لكائنات كبُرَتْ أم صغُرت (وهذا شبيه بنسبية المصالح بين البشر)
فالبراكين تنفيس طبيعي وعمل روتينيّ لقشرة الأرض، والأعاصير والعواصف تقلّبات مناخيّة بين الحين والآخر مثل تقلّبات المِزاج عِند البشر! وهلاكُ المَحَاصِيل بالجَراد مُجرّد وليمة لم يحتمل الإنسان تكاليفها، والفيضانات أمطارٌ ومياه تغمر الأرض تنفع الأسماك والبرمائيات وتزيد من مخزون المياه، وتُضِر بالثدييات والحشرات والإنسان، والصحراء القاحلة ما هي إلى مكان في الأرض يُمارس حقّه في مناخ مستقل نافع بطريقة مخالفة لنفع المناخ الجليديّ، وفيه حيوانات تعيش متناغمة مع الصحراء وتعرف كيف تأكل وتتوالد وتتدبّر أمورها بين حرّ النهار وقرّ الليل. والأمراض ما هي إلا مخلوقات صغيرة أو مواد دخلت في علاقة مع كائنات أخرى أو تعيش على بشرة الإنسان كما يعيش الإنسان على "بشرة" الأرض ! بعضُها صديق للإنسان، ويعمل عمل الروبيان المنظّف للأسماك، أو تبادلية كما تفعل قملة النبات بتقديمها سائلا حلوا للنمل، وبعضها عدو يسبب المرض، فهو توالد وعُرس عندها، ومسألة حياة، ولكنّه مرَضٌ وغَمّ عندنا، ومسألة موت !! وهكذا
فالذي يذهب للصّحراء أو يقطن بمقربة من شق زلزالي أو أمام بحْر قدْ يَهيج يومًا ما، قد يتداخل مع "مصالح وطبيعة" تلك المخلوقات و"عاداتها" الطبيعية جدا، ولم يُجبرْه أحد على اختيار تلك الأمَاكن، وحتى إن اضطر لذلك، فلا يمكنه المطالبة بوقف "أنشطة مخلوقات أخرى" !
وطرْح باطن الأرض للاّفا الحارقة القاتلة، هو مثل طرح إنسان لإفرازات أو بقايا صناعية على مخلوقات أصغر منه أو أضعف منه ! أو شجرة تنموا وتنعم بالشمس والماء، فيُجْهز عليْها حاطِب ليُطبّق إحدى "عاداته" التي لا يشتكي منها أحد، لأنّ الإنسان هو وحده من يملك اللغة ليُكثر الشكوى ! يستغلّ الشجرة كما تستغلّه نبتة لكي ينقُل غبار الطلع، يشتكي الإنسان من الحساسيّة وتعيش الأزهار !
وسقوط شجرة أو جدار على بضعة أشخاص، هو شبيه جدا بسقوط جثّة إنسان على مسيرة النمْل فيقتل ويعْطُب وينهَضُ وهو يشكو من ألم السقطة ولا يبالي كم سحق من النملات. فتغتنم البكتيريا الفرصة لدخول جسَدِه بعد أنْ عانتْ من الجفاف وطول فترة التبويغ. لتعيش "human body dream" ! للتتكاثر وتنعم بالحرارة والغذاء المناسبين، ويُقال لها بالرّفاه والبنين وربما البنات...
وسقوط بَرَدٍ مثل البطاطس على السيارات والمحاصيل مسبّبا خسائرَ كبيرة، هو مجرّد تخّفف السُحُب من ثقلها، وفعل الجاذبيّة رغما عن البَرَد. كأن يضعَ الإنسان عن ظهره صندوق فيحطّم الأرضيّة !
تبدو مقاربة كوميدية ولكنها واقعيّة.. !! فبأيّ منظور سنحْكُم على الشرّ هنا؟ بما أنّ للكل الحقّ في العيش، وأنّ الشرّ للإنسان خير لغيره، والخير له شرّ لغيره. وقد يكون الإنسان في المكان والزمان غير المناسبين متداخلا مع ظواهر وطبيعةٍ لها نشاطاتها الخاصة بعيدا عن "دَلال" البشر ومطالبِهم !؟
وحتّى إنْ حصرنا الدائرة بين البشر فقط، يأخذ الخير والشرّ معنى محدّدا من زاوية محدّدة. فالتاجر التقليدي لا يعْتبر إفلاس شرِكة مصنّعة شرّا بالنسبة له، لأنها كانت تؤثر على تجارته اليدوية، بيد أنّ الآلاف طُردوا وافتقرتْ أسَرهم معهم، وهو شرّ أكبر لم يُعْره أي اهتمام مقابل الاهتمام بمصلحته الشخصية !
هذه المقاربة الشموليّة غير المتمركزة على "الإنسان" هي ما تنُص عليه النظرة العلمية التي تنبُذ فكرة "أنْسَنَة" الكوْن والطبيعة، والتي مفادها أنّ كل شيء يقع في الطبيعة هو من أجْل تدليل الإنسان واعتبار حاجاته "فقط"، أو التفاعل مع مشاكله وهُمُومه وأزماته الأخلاقية أو لتُراعي مصالحه وتُساير عقائِدَه (لا أتحدث هنا عن جاهزية الطبيعة لاستقبال الإنسان، فهي موجودة له ولغيره، فضْلا على أنّها ليْستَ مُطلقة وتقتصر على النسبة الأصغر من الكون والطبيعة)
وقد لاحظْتُم علاقة هذا بفكرة خاطئة تزعُمُ أنّ كلّ حدَث وكارثة سَببُها أحْداث سياسية أو دينية أو أخلاقية ! الكلّ يُعطيها طابعَ الانتقام لمن يراه أهلا له ! ورّبما يظنّ المسلمون وغيرهم أنّ ذكر الله تعالى لعذاب الأقْوام، هو تفسير لمزَاج الطبيعة، وهذا غلَط فاحشْ، فالله تعالى أخبَر أنّ الغاية من عِقابهم هي غضبُه عليهم، وليس أنّ الغضب مفسّرٌ لآلية وزمان ومكان الكارثة ! بمَعنى آخر أنّنا إنْ نظرْنا لهلاك قومٍ بزلزال سنَجد تفسيرا طبيعيا للزلزال، أما الغاية لن نُدركها أبدا، لذا لا يُمكن تعميم ما جاء في القرآن على كلّ حادث، فالغاية أمْر غيبيّ، مِثْلُه مثل تبشير البعض بالجنة أو النار تعيينا زمان الوحيْ، ما ادّعى بعدها أحد تبشيرا لشخص معيّن إلا كان متألّيا على الله !
وإنْ رضِيَ البعضُ إلا تعميمه، فليرضى المسلمون بتفسيرِ كوارثهم بالعذاب والانتْقام من قِبَل المسيحيين ! أو تفسير الملاحدة لكارثة حلّت بالصحابة على أنّها انتقام أيْضا !
طبعا حديثُنا هذا لا ينفي المُصابُ الجلل من قتل أو تشريد أو تجويع أو تشوهات وأمْراض.. وهذا لم ينفه ديننا ولا عقيدتنا، إنّما تسرّب من محاولة المسلمين إيجاد تفْسِيرات مِثالية، ترْبط بيْن "كمال الله تعالى" وبين وجود الشرّ أو بين حكمة الله وعدْله ووُجود الشرّ، ولا يخفى أن الجمع ليس ضروريا وتكلّف ما أنزل الله به من سلطان. إذ لا يلزَم الاعتراف بالشرّ كشرّ (دون التحايل عليه بقول أنّه خير في بعض جوانبه) أن ننسُبَه لله تعالى (القدَرُ يُفهم بطريقة سمِجة على أنّه "إرادة الله" !)، وهُنا مَكْمَن الخلل الذي كان سَبَبا في وضع نظريات وتفسيرات مسيحية أو إسلامية مثالية تصادمت مع الفلسفات المادية أو الواقعية. وجرّاء ذلك تسَرّب المفهوم المغلُوط للملاحدة في محاولتِهم، كردة فعل، رفضَ تلك المثالية ومحاكمة الدين كمُنتِج مباشرٍ لها !
فديننا سمّى الشر شرا والخير خيرا: (ونبولكم بالشر والخير فتنة) ولم يذكر الخير وحده كمآل للشر والخير معا!!
إنّما طلَب من الناس التسليم لقدرِ الله (بمعنى ما وقع بإذنه وليس بإرادتِه وهناك فرقْ، فالإذن من باب "ترك الحريّة" أما الإرادة فتفعيلها يعطّل الحرّية، لذلك لم تُفعّل إلاّ في الدين الذي لا إكراه فيه !) قدرٌ يحتوي شرا وخيرا (الإيمان بالقَدَر خيره وشرّه) ولو كان كلُّه خيرا لما ذُكر صِنف الشرّ فيه، وحثّ على الصّبر على البلاء، ووَعَد بالأجر والجزاء وجعل الجنة دار قرارٍ والدنيا جِسْرا مؤقتا فقط مع ما فيه من آلام وشرور.
ماذا عن تكريم الله تعالى لابن آدم في منظومة لا يُعتبر فيها الإنسان استثناء ؟
التكريم هُنا لا يعني أن يدور الكون مدار رغبة وميول الإنسان، بل هو تلك الحرية والوعْي اللذان يتمتع بهما الإنسان، ويصنع بهِما قدَرا لم يكن ولن يكون لمخلوق آخر لا يبرَح طبيعته وقدراتِه. مع ما تيسّر له من تطويع الطبيعة والحيوانات.
وفي الأخير، المطالبةُ بمنْع الشرّ مطالبةٌ بسلب حريّة الإنسان الذي يرى فيها "حقا وخيرا" إن كان المنتفِع، "وظُلما وشرّا" إنْ كان المتضرّر. وهنا يظْهر التناقض صارخا في حالة اللادينيين والمَلاحدة، إذ أنّ إرادة نفْيهم للخالق أو الدّين، لم تكُن لترَ النّور لولا مِساحة "الظلم والشرّ" المسموح بها عند خالق الدّين. ثم يُطالبون بمنْعِ الوسيلة نفسها التي رفعوا بها مطالِبَهُم !
ولا شكّ أنّ منع الحريّة مخافَة الشرّ، شبيه بمنْع طفل من اللّعب مخافة أن يتأذى، فسعيُنا لمنْع الأذى عنه إطلاقا، يعني منعه من اللعب إطلاقا، بسبب وجود احتمالية الأذى والشرّ في "ذات" اللّعب نفسه !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق