الجمعة، 17 نوفمبر 2023

لماذا لم يلغ الإسلام العبودية؟


ظاهرة الرق عرفتها أغلب المجتمعات وكانت موجودة في بقاع الأرض شرقا أو غربا، وتعتبر أمرًا عاديًا جدًا ولم نسمع أن قانونًا سنّ لاستنكارها أو إيقافها أو الحدّ منها أبدًا في العصور السحيقة... فمن المعروف بأن الشعوب في الماضي كانوا يستعبدون أيا كان من مستضعفين يتحصلون عليهم من قطع الطرق أو الحروب أو الاعتداء، أو من الفقراء كمن لم يستطع سداد ديونه، أو باع أولاده بسبب العالة... إلخ. ويستخدم هؤلاء العبيد المساكين في أكثر الأعمال مشقة ويعاملون معاملة قاسية ظالمة بدون حقوق لهم. فجاء الإسلام وكان أول من قام بقفزة هي الأولى من نوعها، حيث حرّم استعباد الأبرياء من الناس، فلا يجوز بأي حال من الأحوال ترويع الأبرياء والاعتداء عليهم وتحويل الأحرار لعبيد، فهذا ظلم كبير... والقرآن أول شريعة تحرّم استعباد الأبرياء من الناس وهذا قبل قرون وقرون من عصرنا الحديث حين اتفقت الدول على منع العبودية! 


مجال الاستعباد الوحيد الذي ظل مفتوحًا مع ظهور الإسلام هو مجال استعباد أسرى الحرب، ومفتوحًا لا يعني أن الإسلام يأمر به أو يشجع متبعيه على تبنيه، مفتوحًا يعني أنه بقي موجودًا، كما يجب التنويه إلى أن القرآن واضح وصريح بأن المسلم لا يحق له التهجم على من لم يقاتله ولم يعتد عليه، فالاعتداء على الآمنين والإفساد في الأرض لا يجوز، فالذي يحارب المسلمين ويعتدي عليهم هو من وضع نفسه بموقف قد يعرضه للأسر والاستعباد، ولم يجبره أحد عليه! ولا يُشترط استعباد الأسرى في الإسلام، بل أصلًا لم أجد أي نص لا بالقرآن ولا السنة يأمر المسلمين باستعباد الناس، بل إن الخيارات المطروحة بالقرآن في حق الأسرى هي إما إطلاق سراحهم منًا وتفضلًا أو جعلهم يفتدون من أجل حريتهم لقاء مال أو غيره: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد 4). أي أن من حارب المسلمين وروّع الآمنين فانتهى به الأمر كأسير، يمكنكم إما أن تمنوا عليه بإطلاق سراحه مجانًا دون مقابل، أو أن يدفع هو مالًا لقاء حريته وإطلاق سراحه من الأسر، أو ربما يتم تبادل الأسرى بين المسلمين والأعداء... لاحظوا كيف أن الاستعباد غير مطروح كخيار بالآية، بل كما وضحنا فإن بالقرآن بأسره لا توجد آية تأمر باستعباد الناس. يقول محمد رشيد رضا (تفسير المنار، يونس 2) فيما يخص هذا التخيير المطروح بالآية بين المن والفداء: "ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم، جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق في الإسلام؛ فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذي هو الاسترقاق غير جائز، لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتي. ولكن الآية ليست نصا في الحصر، ولا صريحة في النهي عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية، فبقي حكمه محل اجتهاد أولي الأمر، إذا وجدوا المصلحة في إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة في ترجيح المن عليهم بالحرية -وهو إبطال اختياري له - أو الفداء بهم عملوا به."


لكن حتى لو انتهى الأمر بهذا الشخص المحارب الذي وقع أسيرًا كعبد فيمكننا اعتبار الرق في حقه عقوبة، مثلها مثل السجن، فهذا الشخص كان مقاتلًا شريرًا يريد قتلنا، أي أن الرق لم ينزل على الشخص ظلما وعدوانا دونما سبب. وربما الرق أفضل وأريح له من السجن، فعلى الأقل حين يكون عبدًا يحق له التنقل والخروج ورؤية الدنيا وتنفس الهواء والالتقاء بالناس وتكوين المعارف والصداقات وحتى الزواج وإنشاء أسرة بدل أن يظل حبيس غرفة مربعة، وعمله في خدمة سيده ربما أهون من أن يعمل في أعمال السجن الشاقة، ناهيك على وجود احتمالٍ عالٍ جدًا في أن يُطلق سراحه (كما سنشرح أكثر في الأسفل). 


إن من يحارب المسلمين هو من عرّض نفسه لاحتمالية أن يصبح عبدًا، تماما كما قد يعرض نفسه للقتل أو الإصابة أو الإعاقة في الحرب. وبالرغم من أنه كان محاربا مقاتلا إلا أنه حين يكون أسيرًا في يد المسلمين، يوصي القرآن بالإحسان له، حيث إن إطعامه يعتبر صدقة يؤجر عليها المسلم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان 8 - 9). ذُكر إطعام الأسير في سياق إطعام المسكين واليتيم! وشتان بينهما وبين الأسير! لكن القرآن يعوّد القلوب البشرية على الرحمة والعطف على كل محتاج وإن كان أسيرًا! ولاحظوا التعبير البليغ (عَلَىٰ حُبِّهِ)، هم يطعمون هذا الطعام رغم أنهم يحبونه ويريدونه ويحتاجون إليه، والمقابل؟ لا نريد منكم أي مكافأة، ولا حتى كلمة شكرًا نريدها... أحيانا شخص قريب يسديك خدمة أو معروفًا فيظل يمنّ عليك حتى يكرّهك في المعروف وأهله! لكن بالقرآن نرى صورة الشخص الذي يقدم دون انتظار المقابل... من جمالية القرآن أنه كثيرا ما يضيف لمسة أخلاقية إنسانية لكل حكم يقرره. أين هذا التعامل الإنساني الراقي الذي ينادي به القرآن مما نراه في واقعنا المرير من مفاجع ما يحصل في سجون الطواغيت؟ والتي تجعل القلوب تتألم لما يحصل فيها من انتهاكات لأبسط الحقوق الإنسانية. حتى لو كان من بالسجن أعتى الأشرار، فذلك لا يبرر إيذائه وتعذيبه... في القرآن الأسير يُعامل معاملة إنسانية رحيمة، رغم أنه كان بالأمس يريد قتلنا وترويعنا! 


والإسلام حد علمي هو أول (بل هو الوحيد) من سنَّ تحرير العبيد على أتباعه كجزء من تعاليم الدين، فجعل أجورًا عظيمة لمن يعتق رقبة، فالقتل الخطأ دون قصد كفارته إعتاق رقبة: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92).


ومن يخلف يمينه، ومن يظاهر زوجته أيضا: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة 89)، وأيضًا: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المجادلة 3-4).


وبعيدا عن الكفارات فإن إعتاق الرقاب له أجر كبير وهو أحد أنواع الصدقات والزكاة المفروضة على المسلمين: 


(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة 60) 


(۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة 177). وجملة (وَفِي الرِّقَابِ) يُقصد بها تحرير العبيد.


ومن عليه ديون أو هو فقير ومحتاج فالمجتمع مطالب بمعونته وصرف أموال الزكاة من أجله لا استغلاله باستعباده واستعباد أطفاله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة 60). والغارم هو من أثقلته الديون ولا يستطيع سدادها.


وإضافة لهذا جعل القرآن حقّ الحرية بيد العبد نفسه! نعم بيد العبد نفسه حيث يأمر القرآن سادة العبيد على القبول بالمكاتبة وهي أن يعمل العبد ليدفع مبلغًا لسيده فيحصل على حريته مقابل ذلك المبلغ: (... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...) (النور 33). لاحظوا جملة (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، والتي فيها حث على إعطاء هؤلاء العبيد من المال لنساعدهم على المكاتبة والتحرر، أو ربما أن يعفيهم أسيادهم من مبلغ المال فيحررونهم بدونه، أي أن المجتمع الإسلامي كله بما في ذلك سادة العبيد مكلفون بمعاونتهم لينالوا حريتهم. وقد قال بعض أهل العلم أن الأمر بالمكاتبة والأمر بالإعانة عليها واجب بنص هذه الآية (راجع الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، ص343-344). 


ونفهم من الآية السابقة أن القرآن أعطى حق العبد العمل والاكتساب وأعطاه حق الملكية لما يجنيه من مال وممتلكات، ويدخل في ذلك أيضًا حق المهر للنساء: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة النساء 25). فالقرآن كفل لهم حق الزواج ومساعدتهم في ذلك لو أرادوا: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ ٌ) (سورة النور 32). 


وحرّم أيضا ظلم العبيد وما كان يحصل كإجبارهم على أعمال أو أفعال يكرهونها أو لا تليق كالبغاء: (... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور 33). وهكذا يعيد الإسلام برمجة العقل البشري الذي تعود على استعباد واستحقار واستصغار واستغلال من هم أضعف منه وتحته من بشر.


صورة العبودية في ظل الإسلام تختلف تمام الاختلاف عمّا يبدر في أذهان الناس نتيجة ما نعرفه من تاريخ البشرية الأسود في حق العبيد، وما تصوره الأفلام والبرامج التلفزيونية، من قهر وظلم وتعذيب وتنكيل ومجازر... تعاليم الإسلام توجب أن يعامل العبد كعاملٍ يعمل في بيت سيده، عليه أعمال يقوم بها ويلقى مقابل ذلك المأوى والمأكل والملبس، إنسان مكرّم له حقوق وواجبات. والأحاديث النبوية مليئة بالعشرات والعشرات من التعاليم السامية في حق العبيد، توجب الإحسان لهم وتحرم ضربهم وظلمهم وإهانتهم وتأمر بإلباسهم مما نلبس وإطعامهم مما نأكل.


طبعا قد يأتي شخص ويقول: "لماذا لم يأمر الإسلام بإطلاق سراح جميع العبيد وتنتهي العبودية بكل بساطة؟". بالرغم من أن الاعتراض قد يبدو وجيها إلا أنه يخلو من الواقعية، فالرق كان متجذرا في المجتمع ويعتبر نسيجا من أنسجته، والعبيد كانوا يمثلون شريحة كبيرة منه، وكانوا معتمدين على أسيادهم في كل شيء، والعبد كأنه فرد من العائلة يلحق بها ويسكن معها (رغم أنه قد لا يعامل كذلك بالضرورة)، هذا ناهيك على أن جزيرة العرب كانت صحراء قاحلة يكثر فيها الفقر والمجاعات، فلو أطلقنا سراحهم فجأة فإننا سنتسبب بأزمة إنسانية قاسية، فتحريرهم مثل إلقائهم بالشارع دون معيل ودون داعم ودون مأوى يؤويهم... خصوصًا أن كثيرًا منهم قد لا يكون من تلك المنطقة أساسًا بل ربما جيء بهم ظلمًا وعدوانًا من مناطق أخرى نائية جرّاء المتاجرة والعدوان وقطع الطرق... أيضًا ربما من الظلم لأسياد العبيد أن نأمرهم بإطلاق سراح عبيدهم فجأة هكذا دون مقدمات، لا ننسى أن العبيد كانوا يمثلون للبشر قديمًا ثروة مثلهم مثل المال وغيره من ممتلكات شخصية، وربما بعضهم لا يملك إلا عبيده، تخيل أن يأتي شخص ويقول للناس بالمجتمع من الآن فصاعدًا عليكم جميعا أيها البشر أن تتخلوا عن سياراتكم أو بيوتكم أو أثاثكم الآن وحالًا تقومون بالتبرع بهذه الممتلكات والتنازل عنها (مع فارق التشبيه بين الإنسان والماديات، لكن نحن نتحدث بوجهة نظر العصر الجاهلي الذي كان يرى العبد من الممتلكات الشخصية)!! إنه ليس بأمر بسيط أو سهل، سيلقى مقاومة شديدة من الناس وسيتسبب بأزمة كبيرة. 


والتاريخ البشري يُثبت لنا صعوبة الأمر، فمثلًا حين نقرأ عن الحرب الأهلية الأمريكية ندرك أن موضوع تحرير العبيد لعب دورًا محوريًا وأساسيًا في إشعال هذه الحرب (1). وكذلك حين نقرأ عن حركة تحرير العبيد نعرف أنها لم تأتِ هكذا فجأة ولم يكن مفعولها فوريًا، بل أخذ الأمر سنينًا حتى استقر وتم (2)، بل أصلًا ما زالت هناك مناطق في العالم تستعبد الناس ومازال عدد لا يستهان به من البشر يخضعون للاستعباد أو لظروف استعبادية هذا رغم أن القوانين تحرم ذلك... أحيانًا أنظر لأوضاع بعض الطبقات العاملة في مجتمعاتنا الحضارية المتطورة بمرتباتهم الزهيدة وظروفهم القاهرة فأشعر أن الرق لم يختف من عالمنا بل بدّلناه بشكل جديد وألبسناه حلة جديدة... 


ثم إن علينا أن نسأل ما مصير الملايين من العبيد الذين تم تحريرهم؟ أين ذهبوا وهل استطاعوا توفير أرزاق أنفسهم وإيجاد وظائف يعملونها؟ هل كان مصيرهم تلك الصورة الوردية الجميلة التي نرسمها في مخيلاتنا؟ للأسف فإن في أمريكا وحدها كان مصير المئات من العبيد المحررين، بل الآلاف منهم الموت جوعًا أو مرضًا جراء نقص الموارد والظروف غير الصحية في المخيمات التي أقيمت لإيوائهم (3، 4)! حتى أن أحد المؤرخين سمّاها أكبر أزمة حيوية مررنا بها في القرن التاسع عشر، بل إنه يرجح أن ما يقارب الربع من الأربعة ملايين عبدًا الذين تم تحريرهم إما مات أو أصيب بالأمراض (4). فتخيلوا ماذا سيكون مصير العبيد في صحراء عربية قاحلة لو أطلق سراحهم فجأة.


لا يفهم من كلامي أني أبرر العبودية، بل أنا أدعو إلى الواقعية، فإن كان تحرير العبيد قد قوبل بكل تلك العراقيل والمشكلات في عصر قريب من عصرنا كان البشر فيه أكثر تطورًا وعلمًا فما بالك بعصور ساحقة هي أكثر تخلفًا وشحًا في الموارد... فحل القرآن كان هو الأكثر واقعية ومنطقية في تلك الحقبة، إذن لا يحق لأحد أن يعترض على هذا الحل القرآني التدريجي لمشكلة العبيد، لأنه كان مناسبًا لظروف الزمان والمكان التي تولد فيها.


من الواضح أن القرآن يكره أن يبقى الناس عبيدًا تحت وطأة الرق، فشرّع لحلول تدريجية عملية، حيث قام أولا بتجفيف منابع الاستعباد وتحريم استرقاق الأبرياء من الأحرار، وهذا في حد ذاته 


الآيات التي ذكرناها بالأعلى -وغيرها- والتي تحث الإنسان على تحرير أخيه الإنسان العبد، سواء عن طريق التصدق، أو عن طريق التكفير عن سيئاته، أو عن طريق المكاتبة تدل على أن القرآن يكره الاستعباد، ويراه حالة غير طبيعية يجب العمل على إزالتها، والحث على ذلك بشتى السبل والطرق الممكنة (وإلا لما طالب القرآن المسلمين بتحرير العبيد بكل تلك الطرق)، وهذه الحلول القرآنية تدريجية لكنها عملية وتعني أن إنهاء العبودية في أوساط المسلمين مسألة وقت فقط، فكون مصدر العبيد غير متجدد يعني أن أعدادهم مآلها إلى الزوال بموت أو تحرير العبيد الموجودين... وهذا الحل أقرب لواقع حياة البشر آنذاك، وأجزم بأنه لو تم اتباع النظام القرآني بحذافيره لكانت العبودية ستنتهي ولا يبقى عبيد في أوساط المسلمين ربما في خلال قرن أو قرنين على أقصى تقدير، لكني أعتقد أن المسلمين لم يطبقوا تعاليم القرآن بالضرورة بخصوص العبيد للأسف، وخرجوا عن هداياته فزادت أعدادهم بشكل خيالي بدل أن تنكمش... لكن تلك قصة أخرى تخرجنا عن السياق.


يذكر منقذ بن محمود السقار (في كتابه تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين ص294) فكرةً جديرة بالملاحظة، وهي أن آيات القرآن فيها ما يمكن أن يُفهم على أنه تنبؤ بنهاية العبيد واختفاءهم من المجتمع، وكأن القرآن يدلنا إلى مآلات الأمور الحتمية المرجوة، ففي الآيات التي تسن تحرير العبيد ككفارة للذنوب دومًا نجد خيارًا آخر يُطرح لمن لم يجد أن يحرر رقبة: (... وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92)، وأيضًا: (... تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ ...) (المائدة 89)، وأيضًا: (... فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ...) (المجادلة 3-4)... طبعًا المقصود الشائع هو أن من لا يملك القدرة على إعتاق الرقبة لفقره مثلًا فعنده هذه الخيارات أخرى، لكن المعنى الآخر الذي ذكره منقذ بكتابه قد يكون محتملًا أيضًا وواردًا رغم ظنيته.


إذن الإسلام لم يأمر إطلاقًا باستعباد الناس، بل كان الرق أمرًا قائمًا موجودًا في المجتمع، فعمل الإسلام على حل هذه المشكلة بتحريم استعباد الأبرياء من الأحرار، أما من كانوا عبيدًا من قبل فإنه حث على إطلاق سراحهم بشتى الوسائل الممكنة، بينما جعل سبيل حريتهم بيدهم عن طريق المكاتبة، والمجتمع المسلم مطالب بمعاونتهم في ذلك، وعلى افتراض أن لم يعفُ عنه أحد ولم يجد المال ولم يعاونه أحد للمكاتبة وتحرير نفسه فبقي عبدا، فالإسلام لا يعامله كعبد بل كإنسان كامل الإنسانية لا يهان، وله حق الزواج والملكية... وسواء اتفقت مع هذا المنهج القرآني أم لم تتفق، فإن الإنصاف يُلزمك بالاعتراف بسموه وإنسانيته ومغايرته تمامًا لما كان سائدًا... فمن ألهم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا؟


المصادر:


(1) Chandra Manning, Excerpt from "What This Cruel War Was Over", Penguin Random House Canada, March 11, 2008


(2) Abolitionist Movement, History.com, October 27, 2009 (original published date), November 10, 2021 (last updated)


(3) Jim Downs, Emancipation, sickness, and death in the American Civil War, Perspectives|The art of medicine| Volume 380, ISSUE 9854, P1640-1641, November 10, 2012


(4) Jim Downs (Sick From Freedom) as cited in: Paul Harris, How the end of slavery led to starvation and death for millions of black Americans, TheGuardian.com, Sat 16 Jun 2012 13.06 BST


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: