الاثنين، 22 مايو 2023

هل يسرق الجن ذهب الإنس ليتزين به؟!


هل يسرق الجن ذهب الإنس ليتزين به؟!


ينتشر في بلادنا العربية والإسلامية شائعات تتعلق بالدين، وبخاصة ما يرتبط بعالم الغيب، ويكثر فيها أقوال الوعاظ، ممن لم يتوفروا على البحث العلمي، والتدقيق الشرعي، والناس في بلادنا تهوى وتتلقف الكلام الغامض، وبخاصة ما يتعلق بالجن والسحر والحسد، وكل ما له علاقة بعالم الغيب، ولذا يكثر في هذا المجال الكلام الخاطئ، ويقل فيه الكلام الصحيح، المستند على دليل شرعي.

داعية يروج لسرقة الجن ذهب الإنس:

منذ أيام قليلة، نشر موقع مصري خبرا يحذر فيه داعية مصري من أنواع الجن، وهوايتهم لسرقة ذهب الناس، فقال: (الجن يسرق الذهب من المنزل ليتزين به، ويمكن استرجاعه بالدعاء، لكن إذا كان جن (طيار) استعوض ربنا). إلى هنا ينتهي الخبر، وهو يحمل كما نرى أوهاما تتعلق بالدين، وتتعلق بدنيا الناس، وتتعلق بالقانون وسلامة وأمان المجتمع.

وكلها كما نرى عبارات لا دليل عليها، ولا منطق عقلي يدعمها، لا دليل من القرآن والسنة، حيث إن صاحب التصريح داعية، ولا منطق من الواقع يمكن أن يصدق مثل هذا الكلام، إلا في عالم الخرافة، وعالم التوهمات، وهو ما يمكن أن يسري ويشيع في بيئته فقط، ولأن الموضوع له علاقة بالشرع، بل هو بالأساس موضوع شرعي، ويكثر فيه أسئلة الناس بالعموم، حيث لو شاهدت برامج الفتوى في التلفزيون، أو الإذاعة، أو الفضائيات، أو الأسئلة التي توجه للمشايخ، ستجد نسبة غير قليلة تتعلق بالجن والسحر والحسد، ولأن الموضوع فيه إسهاب لا يتحمله المقال، سوف أركز فقط على ما ذكره هذا الداعية، لأنه كلام أحيانا يروج في بعض المناطق، وفي بعض جرائم السرقة.

سارقة تعللت بأن الجن يأمرها بالسرقة:

وأذكر أني حضرت منذ أكثر من عشرين عاما قضية تحكيم في الريف المصري، وكانت بعض النساء يتهمن امرأة سرقت ذهبا لهن، وكذلك اتهمت بسرقة أموال، وظلت المرأة المتهمة بالسرقة كلما ضيق عليها، تتصنع حالة من الإغماء، وتغير الوجه، وتغير الصوت، وتخشن صوتها، وكأن عفريتا من الجن ركبها، لتبرر ذلك بأنها مسيطر عليها، وهو الذي يسرق وليست هي، ولذا فهي ليست سارقة، بل مسكينة مريضة، عليهم أن يعالجوها، وأن يجلبوا لها شيخا، أو متخصصا في فك الأعمال والسحر، وصدق بعض السذج السيدة وأراد التعاطف معها.

مصدر الحديث عن عالم الغيب:

الجن والملائكة، والجنة والنار، والقبر، والموت، كل هذا وقضايا أخرى، تدخل تحت باب: عالم الغيب، وهو عالم أمرنا الله تعالى بالإيمان به، فقال تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب) البقرة: 3، ولكن هذا العالم لأنه اسمه الغيب، أي: ما يغيب عنا، فالإيمان به ركن من أركان الإيمان، لكنه مشروط في ذلك، بأن يكون مصدره هو عالم هذا الغيب، وعلام الغيوب وحده هو الله سبحانه وتعالى، ولذا لا نؤمن، ولا نعتقد إلا بما ثبت عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن هذا العالم.

والآيات والأحاديث التي تحدثت عن عالم الجن، هي نصوص محدودة، وما يتعلق فيها بمدى التداخل في عالم الإنس، هي نصوص قليلة جدا، ولا تفيد دلالة صريحة في الأمر، ويحاول من يتكلم في هذا الموضوع أن يأتي بكل شاردة وواردة، وبكل ما هو مجازي في الحديث، ليسقطه على واقعنا، والحقيقة أن النصوص بينت أن عالم الجن عالم مستقل تماما عن عالم الإنس، لم يحدث التقاء بينهما إلا في مساحات محدودة، وكانت مع أنبياء في سياق واضح ومعلوم، لا يمكن تعميمه على كل بني البشر.

تسخير سليمان عليه السلام للجن:

وما ورد في القرآن الكريم من تسخير نبي الله سليمان للجن، فقد كان من باب الإعجاز، وليس من باب العموم، [...].

وقد جعل الله تعالى وفاة نبي الله سليمان دليلا قرآنيا وواقعيا واضحا على عدم قدرة الجن على معرفة الغيب، أو أخذ شيء من الإنس، كما يزعم البعض، فقد سخرهم نبي الله سليمان للعمل، وقد أدركته الوفاة، ولم يعلموا بذلك، إلا عندما أكلت دابة الأرض منسأته، ولذا قال تعالى: (وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن يَعۡمَلُ بَيۡنَ يَدَيۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن يَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ. يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ. فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ ‌فَلَمَّا ‌خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ) سبأ: 12-14.

ما ورد في تراثنا عن حياة الجن مع الإنس:

وربما استدل بعض من يذهب إلى أنه يمكن للجن فعل ذلك، ويمكنه فعل أشياء تدخل في حياة الإنسان، ويستدل بما ورد في تراثنا الفقهي من نقاش لبعض حالات تتعلق بالتقاء الجن والإنس، كزواج الإنس بالجن، سواء كان الزوج رجلا أو امرأة، كأن يتزوج إنسي جنية، أو جني إنسية، والمتأمل لهذه الآراء الفقهية، فسيجدها كانت من باب: الفقه الافتراضي.

فالمسلمون عندما كانت عندهم حضارة ممتدة، وخلافة وحكم يملك زمام أقطاب الدنيا، كان هناك لون من الترف الفكري والفقهي، فكانت تطرح مثل هذه الأسئلة، والتي ليس لها أساس من الواقع، وهي كلها أمور متخيلة، وليست واقعية، وليس معنى نقاش التراث الإسلامي لها، دلالة على أنها حقيقية، وإلا فإن الشعر والتاريخ والأدب تحدث عن: الغول، والغولة، ولا يوجد مخلوق اسمه الغول، وورد في شعر امرئ القيس وغيره كذلك، وقس على ذلك قضايا من هذا النوع.

جهل بالدين يؤدي إلى خلل النظام الجنائي:

فإذن لا يصح مثل هذا الكلام دينيا، ولا واقعيا، بل إن انتشار مثل هذه الأفكار المغلوطة يؤدي إلى خلل النظام الجنائي في المجتمع، فهو يفتح باب الجريمة على مصراعيه، حيث سيتعلل كل من يرتكب جريمة بأن من قام بها هو الجن، وأن من حرضه الجن.

وهو أيضا يفتح باب الإهمال من الشرطة ورجالها، فلو ذهب إنسان لعمل محضر بسرقة ذهب، فقال له ضابط المباحث: هذا للأسف ليس اختصاصنا بل اختصاص الجن، لأن السارق من الجن الذي يسرق الذهب، اذهب للشيخ فلان ليعمل لك حجابا لرده، ولو كان الجن طيارا، فهل معنى ذلك أن يذهب الشخص المسروق إلى كلية الطيران، أو إلى مطار القاهرة الدولي، ليبحث عن طيار ماهر يحسن معرفة هذا الجن الطيار؟

وماذا لو أتتنا امرأة وقد حملت من حرام، ولكي تبرر فعلتها، فقالت: إنني لم أزن، بل تزوجني جن غصبا عني، أو اغتصبني، وقاومت ولكني لم أستطع، وقد حملت منه؟ وهو باب لا يغلق في هذه المسألة، وليس له أصل، أو وجود حقيقي.

وماذا لو أن هذا الداعية نفسه، قام شخص بسرقة ذهب امرأته، وذهب للشرطة، فقالوا له: ربما يكون هذا جن طيار، أو جن من سارقي الذهب، هل سيقبل بهذا الرد؟ الحقيقة، أنه لن يقبل، وسيتهم السلطات بالتقصير.

فما ذكره هذا الداعية، أو ما يروج بين الناس في هذا الموضوع، كلام باطل، خرافة لا قيمة لها علميا ولا دينيا. [...].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: