الاثنين، 26 يناير 2015

تأملات في سورة الزخرف


بسم الله الرحمن الرحيم


قال تعالى:


{ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ { 19 } وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ { 20 } أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ { 21 } بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ { 22 } وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ { 23 } قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ { 24 } فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ { 25 }

-سورة الزخرف-
************



هذه الآيات العقلانية البحتة لفتت نظري وأحببتها بشدة ...


من وجهة نظري الآيات ترسم منهج التبيّن والتثبّت والمنهج العلمي العقلاني، والله أعلم..


ففي البداية "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً"


فيسأل الله سبحانه سؤالا يوحي بالاستنكار.. أشهدوا خلقهم؟؟؟
هل استخدمتم حواسّكم بالبحث فيما ادعيتم؟؟ أشهدتم خلقهم؟؟ أرأيتم؟؟ والتعقيب مخيف:

"سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ"


ستُكتب!!!! عجبا!! لم تُكتب؟؟ والله قادر على إثبات كلامهم دون كتابة... وهذا ما تؤكده آيات أخرى بمواضع ومواضيع مختلفة مثل قوله تعالى :

{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} -سورة آل عمران : 181-
ومثل قوله تعالى:

{ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ }

-سورة مريم : 79-


"ستُكتب".. "سنكتب".. الآيات تؤكد أن لا شيئ يمضي دون كتابة وتوثيق وتدوين رغم أن الله ليس بحاجة لهذه التوثيقات، ولكن لعله يعلمنا منهج إثبات الحقائق عن طريق الكتابة... لا عن طريق الذاكرة والروايات والقيل والقال..


يعلمنا أن الكتابة طريقة توثيق... ففي آية الدَيْن مثلا يعلمنا ألا نعتمد على ذاكرة قد تخوننا.. بل يقول سبحانه:

" وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ ... "

-البقرة من الآية 282-


إذن الكتاااااااابة ثم الكتااابة، ليست الشهادات المبنية على الذاكرة هي التي تكفي لإثبات الادعاءات والحقوق، والله أعلم...


نعود للآية...

" ستُكتب شهادتهم ويُسألون " ...

((ويُسألون))
ربما توحي أنه لا أحد يقول ويُترك دون أن يُسأل... ما برهانك؟؟ ما دليلك؟؟ ما مصدرك؟؟ هل ما قلته مصدره سماوي أم ((أهواؤك وظنونك))؟؟؟ أنت مسؤول عن مصدرية ادعاءاتك الباطلة..


وفي آيات أخرى يسألهم الله سبحانه.. "قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "


"أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" -سورة النمل : 64-


"أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُمْ مُعْرِضُونَ" -سورة اﻷنبياء : 24-


"وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" -سورة البقرة : 111-


إذن... سيُسألون وسيطالبون بالبرهان..


وأنا أعتقد -والله أعلم- أنه مجرد سؤال جدلي إذ أنه بالآيات سالفة الذكر يطالب الله بالبرهان على صحة اتخاذهم آلهة من دون الله، ذلك أنّ قضية وحدانية الله بلغت من ظهور الحق أنها لا تحتاج لبراهين، ومطالبتهم ببرهان على إشراك آلهة ربما هو جدلي فقط ليعلمنا الله منهج الدليل والبرهان... هذا إن صحّ فهمي والله تعالى أعلم..


ولكنّ ادعاءاتهم مبنية على ظنون وأهواء، وعلى قداسة ما ورثوه من معتقدات، أو على أي معتقَد كان... فهي باطلة لأنها غير مبنيّة عى علم وعقل وبرهان.. لذا توضح الآيات منهجهم اللاااعلمي..


"وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ { 20 }"


حتى استخدام كلمة "يخرصون" هنا هو الأنسب من كل لفظة اخرى ، لأن أصل كلمة "الخرص" هو الحزر والتخمين والحدس .


والراغب الأصفهاني يقول في كتابه (مفردات ألفاظ القرآن) عن معنى الكلمة:


(ﺃﻥ ﻛﻞ ﻗﻮﻝ ﻣﻘﻮﻝ ﻋﻦ ﻇﻦ ﻭﺗﺨﻤﻴﻦ ﻳﻘﺎﻝ ﺧﺮﺹ، ﺳﻮﺍﺀ ﻛﺎﻥ ﻣﻄﺎﺑﻘﺎ ﻟﻠﺸﺊ ﺃﻭ ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻟﻪ،ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﻠﻪ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ، ﻭﻻ ﻏﻠﺒﺔ ﻇﻦ ﻭﻻ ﺳﻤﺎﻉ ﺑﻞ ﺍﻋﺘﻤﺪ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﻦ ﻭﺍﻟﺘﺨﻤﻴﻦ ﻛﻔﻌﻞ ﺍﻟﺨﺎﺭﺹ ﻓﻲ ﺧﺮﺻﻪ، ﻭﻛﻞ ﻣﻦ ﻗﺎﻝ ﻗﻮﻻ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﻗﺪ ﻳﺴﻤﻰ ﻛﺎﺫﺑﺎ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﻮﻟﻪ ﻣﻄﺎﺑﻘﺎ ﻟﻠﻤﻘﻮﻝ ﺍﻟﻤﺨﺒﺮ ﻋﻨﻪ. ﻛﻤﺎ ﺣﻜﻰ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ:

" إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ(1)" -المنافقون- )

انتهى كلام الاصفهاني رحمه الله ..


إذن "مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" . والخرص واتباع الظن ((بدلا من العلم)) مرفوض بالقرآن في مواضع كثييييرة نذكر منها :


"وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" -سورة اﻷنعام : 116-


"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ" -سورة اﻷنعام : 148-


"وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" -سورة الجاثية : 24-


"وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ" -سورة الجاثية : 32-


"إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ" -سورة النجم : 23-

"وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا"-سورة النجم : 28-

فعلا الآيات تحتاج منا نظرة متفحصة، فهي تثبت لنا أن الخرص واتباع الظن لا يغنيان من الحق شيئاً...


ونعود لسياق الآيات:


أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ؟؟{ 21 }
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ { 22 }


مع بداية الآيات قال سبحانه: "ستُكتب شهادتهم"... ثم هنا يقول "أم آتيناهم كتابا؟"


تركيز واضح على الكتاب والكتابة.. أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ؟؟{ 21 }

وكلمة "الكتاااب" وحدها وردت أكثر من ٢٤٠ مرة في القرآن..


وهنا بالآية وكأنه سبحانه يسألهم: هل لديكم كتاب سماوي بهذا ليُقبل كلامكم ؟؟


وكأن الكتاب السماوي هو محور العلم، وهو الدليل القاطع، وهو الحجة والبرهان ومنبع العلم..


ولكن هم لم يعتمدوا على كتاب، إذن هم ما لهم علم .. فينتقدهم القرآن بأنهم: "مالهم بذلك من علم"... يقولون بلا علم.. وبلا كتاب سماوي ومنهج. إذن الآيات تعلمنا... لميثاقية كلامك أنت ستُسأل:
من أين أتيت بكلامك؟؟ أرأيت؟؟ أشهدت؟؟ هل هناك دليل وبرهان؟؟ هل كتبت أو اعتمدت على كتاب موثق؟؟ هل عندك علم أم تتقول بلا علم؟؟ هل تعتمد بقولك على كتاب؟؟ أم تقول بناء على هواك وظنّك وبلا كتاب وبلا منهج سماوي..


فاطمة أم ثابت

هناك تعليقان (2):

  1. من يسبق الاخر الفكره ام الكتاب ....لان المخترعين والمبتكرين والعلماء فكروا واجروا التجارب ثم جاء الكتاب

    ردحذف
  2. ما أقصرها من رحلة !

    ﴿ مِنْ نُطفَةٍ خلقَهُ فَقدَّره ۞
    ثُمَّ السَّبِيل يسَّرَه ۞ ثُمَّ أمَاتهُ فَأقبرَه ﴾

    اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك '

    ردحذف

| مقطع مرئي |

اكتب عنوان بريدك الإلكتروني ليصلك جديدنا: