(الحقيقة الأولى) أنه - تعالى - هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.
(الحقيقة الثانية) أن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير { { قد خلت من قبلكم سنن } [آل عمران: 137] وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية.
(الحقيقة الثالثة) أن من جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة، فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له. والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا. وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئة الله ولا مزيلا لها، بل مشيئته تابعة لمشيئة الله ومظهر من مظاهرها كما قال: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [التكوير: 29] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه، وأن نترك عندما يترجح في علمنا أن الترك خير من الفعل، كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان.
وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى؛ لأن المقام يقتضي ذلك - ولكل مقام مقال - ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين لنا خطأه وضلاله كما بين خطأ الذين قالوا: { لو شاء الله ما أشركنا } في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته - تعالى - في موضع آخر، فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى، ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق، كما ينكر من يغفل عن كونه - تعالى - هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره. وقد جمع - تعالى - بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء: { { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا } [النساء: 78 - 79].
وقد صرحوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم من المسلمين آمنوا، ثم لما علموا بأنه كتب عليهم القتال ضعفوا وأنكروا وقالوا ما قالوا احتجاجا لأنفسهم واعتذارا عنها، فأجابهم - تعالى - مبينا لهم الحقيقة الأولى، وهي أن كل شيء من الله من حيث إنه الخالق للقوى والواضع للسنن والمقادير، ثم بين لهم الفرع الذي اقتضى المقام بيانه من فروع الحقيقة الثانية وهو أن الحسنة التي تصيب الإنسان هي من عند الله، بمعنى أنه خالقها وواضع السنن الطبيعية والاجتماعية التي يوصل بها إليها والخالق للقوى الكاسبة لأسبابها، فينبغي أن يذكر عندها ليشكر عليها وأن السيئة التي تصيبه من عند نفسه، بمعنى أنه الكاسب لها والمنحرف عن سنن الله وشريعته في طريق تحصيلها، فيجب أن يرجع على نفسه باللائمة ويردها إلى التوبة، كذلك الآية [(... يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران 154)] قد جمعت بين الحقيقتين. الأولى قوله - تعالى -: { إن الأمر كله لله } والثانية قوله: { لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي لما حصل القتل الثابت في علم الله - تعالى - إلا ببروزهم من بيوتهم إلى مواضع القتال التي يصرعون فيها. وبروزهم هذا من أعمالهم الاختيارية [...] ويؤيد إثباتها لحقيقة عمل الإنسان واختياره الآية الكريمة التالية وهي:
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } أي إن الذين تولوا وفروا من أماكنهم يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد لم يكن ذلك التولي منهم إلا بإيقاع الشيطان لهم في الزلل، أي زلوا وانحرفوا عما يجب أن يكونوا ثابتين عليه باستجرار الشيطان بالوسوسة [...].
[...] توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها، ويؤيد هذا الوجه قوله - تعالى -: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الشورى: 30] [...]، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله - تعالى - في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشئونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه، أي الذي مضت سنة الله - تعالى - بأن يعفى ويمحى أثره من النفس، فلا يترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة. وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله: { ويعفو عن كثير } [الشورى: 30] ويؤيد ذلك قوله - تعالى -: { { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [فاطر: 45] أي بجميع ما كسبوا، فإن " ما " من الكلمات التي تفيد العموم [...].
أما قوله - تعالى -: { ولقد عفا عنكم والله } فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى، ذلك عفو عام وهذا عفو خاص، ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به أن ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة، ولذلك قال: { إن الله غفور حليم } لا يعجل بتحتيم العقاب. ومن آيات مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
قل خيرًا أو اصمت: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)